عندما تلتهمك أنياب التفكير الشرسة.. معاناة المصابين بالاكتئاب التي لا يعلمها أحد!

عربي بوست
تم النشر: 2023/03/23 الساعة 11:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/03/23 الساعة 11:43 بتوقيت غرينتش


بينما الناس في مثل سنك يعيشون حياتهم بكل سعادة وطموح وعنفوان، تجد نفسك جسداً لا روح فيه، ترى زهرة شبابك ذابلة باهتة ولا تملك القوة لإنقاذ ما تبقى منك، تعيش معظم وقتك إن لم أقل كله فوق سريرك، تعيش مع شبح فرط التفكير؛ تحس أن سيلاً هائلاً من الأفكار تتضارب في عقلك دفعة واحدة، وتحس كأن تلك الأفكار تصفعك واحدة تلو الأخرى، لترميك بعيداً في كل مرة، فيزيد تعمقك وتوغلك في الظلام الدامس. 

تبتلعك دوامة التفكير حتى تنال منك، فتفقد القدرة على النوم المتواصل، تنعدم شهيتك وتفقد الشغف والرغبة في فعل أي شيء والسعي وراء أي شيء، تفقد الرغبة في الحياة..

تحاول قطع جميع علاقاتك بشكل أو بآخر، بعضهم يثقلون عليك، وآخرون تحس أنك تثقل عليهم بسلبيتك المقيتة. تسأل نفسك ما هدفك في الحياة؟ فلا تجد جواباً شافياً، تشعر باللا جدوى، واللا معنى، تراود ذهنَك أفكار مُلحّة بالانتحار، لكنك لا تستطيع، "بأي وجه سألقى الله؟"، هذا هو السؤال الذي يقف حائلاً بينك وبين تمزيق عروق معصمك.

تتذكر أنك كنت فاشلاً في الفيزياء، تتحسر لأنك لم تتقن اللغات في مرحلة مبكرة، تشعر أنك فاشل. تفكر في مشاكلك وهمومك وأحزانك، تتذكر جميع الكلمات التي آذتك يوماً، تتحسس صدرك، تجد فيه شرخاً لا جبيرة له، تكابر للخروج من اكتئابك، تحاول انتشال روحك من وحل التفكير، لكنك لا تستطيع، فتشعر بالفشل مجدداً. تحاول التعرف على ذاتك لكن دون جدوى، فتشعر بالاغتراب حتى عن نفسك.

تبحث عن أي قشة تتشبث بها لتنجو من الغرق في سيل الأفكار الجارف، تبحث عن رقم معالج نفسي، تتصل بواحد تلو الآخر، لكنهم يضربون لك مواعيد بعيدة، "هل سأستطيع الصمود شهرين أو ثلاثة أشهر كاملة على هذا الحال؟ يبدو أن الجميع مرضى!". تنجح في الحصول على موعد قريب أخيراً، لكنه في مدينة أخرى.

ستضطر للذهاب بالقطار، ترتدي قناع الصلابة مع ابتسامة ذابلة، وتخرج لعلك تلمح شيئاً يشبه ذاتك القديمة، ترى السماء رمادية، ولا تستطيع تمييز الألوان، كل شيء كئيب، كل شيء أسود.. تصل إلى المحطة وأنت تصارع ضجيج أفكارك، تلتقي صديقاً صدفة، تتبادلان التحية والابتسامة، تبدو قوياً وسعيداً.. وحدك تعلم مقدار الوهن الذي ينخر روحك. تُلوِّح له مودعاً، وتستقل قطارك وكل أملك أن يقدم لك الاختصاصي النفسي وصفة سحرية تعود بها شخصاً طبيعياً.

تجلس في مقعدك قرب النافذة، تبدو لك كل الوجوه متشابهة، تحاول أن تقرأ الكتاب الذي أحضرته معك حتى يمر الوقت بسرعة، تقرأ صفحتين دون أن تعي حرفاً واحداً، تشعر بالملل فتغلقه وتعيده إلى الحقيبة، تنظر إلى السكة وهي تمضي مسرعة، "ماذا لو انقلب القطار وتوقفت الرحلة والحياة؟".

يسألك الطبيب عن طفولتك، يسألك عن الأشياء التي كنت تستمتع بها، تحملق فيه كأنك لا تفهم ما يقول، يشرد ذهنك، تحاول تذكر ما الذي كان يسعدك وتستمتع بالقيام به، لكن دون جدوى، تجيبه: لا أدري، تنتهي الجلسة ويعطيك موعداً آخر، ثم تنصرف.

تتذكر أنك لم تأكل شيئاً طوال اليوم، تدخل أقرب دكان، يثير انتباهَك طفل صغير يضحك ويلعب بيديه بكل عنفوان، تغبطه لأنه لا يحمل هماً، تتذكر سؤال الطبيب عن طفولتك، تأتيك بعض المشاهد القديمة، لكنها غير واضحة. تتذكر أنك دخلت لتشتري شيئاً تأكله، ثم تكتفي بقنينة ماء..

تعود إلى البيت متعباً، منهكاً، محمّلاً بأسئلة أخرى، تحس أن الوضع يزداد سوءاً، كابرت اليوم كثيراً، وصمدت طويلاً وأنت تواجه العالم بوجه القوي بينما في داخلك يوجد ركام.. تدخل إلى سردابك المظلم، ثم تنهار. 

تحاول النوم، تخترع سيناريوهات في دماغك، تتذكر قريبك الذي توفي قبل ثلاث سنوات، تغبطه لأنه نجا من هذه الحياة القاسية، تتمنى لو كنت مكانه، أو لو كان بإمكانك اللحاق به. تتذكر الخذلان الذي تعرضت له، تتذكر جميع الأشخاص الذين خذلتهم، تشعر بالذنب، تلوم نفسك، تشعر بالعار والاشمئزاز من ذاتك، تتمنى لو كان في استطاعتك أن تتقيأ روحك. تهجم على ذاكرتك جميع المواقف التي كان عليك أن تدافع عن نفسك فيها، لكنك اخترت الصمت، تخترع سيناريوهات عن الكيفية التي كان عليك أن تجيب بها شخصاً تطاول عليك يوماً، تجلد ذاتك، تلومها، تمقتها، تحس أنك لا تعرفها، كأنها شخص غريب.. تندم على كل مرة كان يتعين عليك أن تقول "لا" بحزم لكنك لم تفعل، يتردد في أذنيك صوتك المرتعد وأنت تلقي كلمةً افتتاحية في تظاهرة طلابية، تتساءل: لماذا كنت خائفاً ومتوتراً حينها؟

تحمل هاتفك، تتصفح أخبار الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا: "ماذا لو ضرب زلزال هنا وسقط السقف على رأسي ووضع حداً لضوضاء الأفكار داخله؟".

تتذكر أن لك صوتاً جميلاً، تفتح حاسوبك وتشغّل مقطعاً لأم كلثوم، تحاول الترديد معها:

"وقابلتك انت.. لقيتك بتغير كل حياتي 

معرفش ازاي حبيتك معرفش ازاي يا حياتي" 

يخرج صوتك نشازاً، تزيدك الأغنية كآبة فوق كآبتك، ربما لأنها تذكرك بمرحلة ما من حياتك، لم تعد تستمتع حتى بالغناء. تتذكر سؤال الدكتور عن الأشياء التي كنت تستمتع بها، تتساءل: لماذا لم تتذكر حينها أنك كنت تستمتع بالموسيقى؟ تفهم لاحقاً أن الاكتئاب يؤدي إلى تقلص حجم المنطقة المسؤولة عن الذاكرة طويلة الأمد وعن وصل الذاكرة بالمشاعر. لا يهم هذا الآن.. تحاول الغناء مجدداً، هذه المرة مع فيروز، تشرد بعيداً، تتعجب كيف استطاعت فيروز أن تغني 800 أغنية خلال 30 عاماً! تقوم بعملية حسابية، تجد أنها كانت تصدر أكثر من أغنيتين كل شهر تقريباً! تيأس من محاولاتك الفاشلة في الهرب من التفكير فتغلق حاسوبك.

تحاول النوم، تزورك أفكارك المتشعّبة من جديد، تتقلب يمنة ويسرة، تستسلم للأفكار التي لا معنى لها، تُغرق وجهك في الوسادة كي لا يسمع أحد نحيبك، تتمنى لو كان بإمكانك أن تصرخ بأعلى صوتك، تتمنى لو تستطيع أن تزأر زأرة تُخرِج معها جميع أوجاعك..

تشعر أنك وحيد، وحيد أكثر مما ينبغي، تكون في أمَسّ الحاجة لوجود شخص ما بجانبك، لكنك تهرب من الجميع، ربما لأنك تدرك بأنه لا أحد يفهمك، "كيف أنتظر أن يفهمني أحد وأنا لم أستطع أن أفهم نفسي؟!". تنزوي في ركنك القاتم، تحيط ركبتيك بذراعيك وتبكي.. تبكي على الظروف التي حمَّلتك ما لا تطيق، تبكي على السعادات التي منحَتها لك الحياة، لكنها سعادات مبتورة، تبكي على المواقف التي أُجبِرت فيها على الاختيار بين خيارين أرحمهما يكسر قلبك، تبكي السنينَ التي أضعتها في الرّكض وراء استحقاق مزيف من الناس، ونسيت قيمة ذاتك، تبكي لأنك خُذلت من الجميع، وعندما عدت إلى نفسك وجدتها فارغة حتى تعذر عليك التعرف عليها.

تسأل نفسك كل مرة: هل أنا في حلم؟ تحس كأنك لا تعيش في الواقع، بل في عالم موازٍ، تحاول الرجوع إلى الواقع لكنك تجد نفسك فيه أصلاً، هذا هو! يجب أن تتقبله.

تصيبك نوبة هلع أخرى، تحاول تثبيت قدميك على الأرض، تحاول مواجهة انقباضات صدرك، تقنع عقلك أن الأوكسجين يصل إلى رئتيك رغم إحساسك الواهم بالاختناق، تنساب دموعك، تحس بالضعف والعجز والاستسلام، تكون في أمس الحاجة لشخص يضمك ويطمئنك، لكن.. لا أحد.

تحس أنك غير مقبول بحالة اكتئابك تلك، أنك بكل حزنك وفوضاك وهشاشتك حمل ثقيل ومصدر للنكد، فتزيد غرقاً وتوغلاً في كآبتك العارمة.. تشعر أنك غير مفهوم، وأن العالم كله متآمر عليك، الجميع ينهال عليك بسياط اللوم والتذمر والتخلي، لا أحد يتفهم عدم رغبتك في البوح، فيستمرون بطرح أسئلة لو كنت تعرف جوابها لما كنت على تلك الحال؛ يسألونك: بماذا تشعر؟ لماذا أنت حزين؟ وما هو الحل لتخرج من هذه الكآبة؟ يكررون عليك عبارات تحسسك أن ما تمر به سهل، ولا يدرون أن في ذلك استخفافاً بمعاناتك. أحدهم يلومك لأنك تجاهلت رسالته، وآخرون يتذمرون من رفضك المتكرر للخروج معهم أو لحضور تجمع عائلي، قريبك لا يعذرك لأنك لم تتصل به ولم تزره في مناسبة ما، الجميع يتصرف معك كأنك اخترت ألا تغادر الفراش بملء إرادتك، وأنك سعيد جداً لأنك غارق في ذلك الوحل الذي يبتلعك رغماً عن كل محاولاتك في النجاة. تصارع معاناتك الداخلية، ثم تضطر لتحمل معاناة أخرى خارجية، يفسرون حالتك بأنها حتماً نتيجة لإيمانك الضعيف، ولا يدرون أن الاكتئاب له علاقة بالنواقل العصبية والهرمونات وكيمياء الدماغ، وأحياناً كثيرة بالجينات والوراثة، ولا علاقة له بمدى قوة العلاقة مع الله، شأنه شأن جميع الأمراض التي يمكن أن يصاب بها الجميع. تحتاج فقط لشخص واحد يفهمك ويدعمك ويخبرك أنه بجانبك، وأنه بإمكانك التحدث في أي وقت تشاء، دون أن يضغط عليك، تحتاج شخصاً يترك حلوله العقلانية والمنطقية جانباً، وتحتويك عاطفته بكل ضعفك وشتاتك وفوضاك، تتمنى فقط أن تنام نوماً طويلاً وعندما تصحو تجد نفسك خالياً من صخب العالم ومن كل أنياب التفكير الشرسة. 

أنت منهك، تحس بالتعب، تعب من فوضى التفكير والمشاعر المبعثرة، تنظر إلى السماء، تهمس: "يا الله، برحمتك أستغيث، لم أعد أستطيع تحمل هذا الضياع الذي يمزق عقلي وقلبي"، ثم تبكي مجدداً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سمية البقالي
مدونة مغربية
مدوّنة مغربية، مهتمة بعلم النفس والتربية والأمومة الواعية.
تحميل المزيد