بدايةً لنكون على بيّنة من أمرنا، ولإزالة أيّ غبش قد يعتري مادتنا هذه؛ لابد في مُستهل حديثنا من هذا التساؤل: من هو الكاتب؟
الكاتب كيان مرهف الحس، أصيل الوجدان، جامح الخيال، ذو أثر باقٍ ما بقيّ الزمكان يتفتق بالكلام حيث يعم وجوم الكل هلعاً من سلطة غاشمة أي كانت وظيفتها سلطة سياسية غشومة، رجال دين محتكرين للمعرفة، زوج متسلط، عرف قاهر.
أصلُ الكاتب من بني الثقافة، ما يعني بالضرورة أنه مثقف، وعلى إثر ذلك وجب التنويه على أنه ليس كل متعلم دارس أو متخصص أو حامل لشهادات عليا مثقفاً؛ فالمثقف أو من يمكن أن نطلق عليه مفردة المثقف لابد أن يحوز على أدوات الثقافة.
بالتالي المثقف يتميز عن غيره بأدواته التي ينحت بها أثره الخالد، وهذه الأدوات هي: الكتابة بكل صنوفها، المسرح، الفن، الريشة، الآلة الموسيقية إلى آخر ذلك، ومنه الكاتب، فهو مثقف نظراً لامتلاكه مسامير الثقافة وغيرها، مهما أطلقَ عليه من مسميات وألقاب ليس بالضرورة أن يصنع منه ذلك مثقفاً، فمثلاً رجل الدين، السياسي، الجنرال، صاحب الشهادات العليا، المهندس، الطبيب، هؤلاء وغيرهم إن لم يحوزوا على أدوات المثقف سالفة الذكر فلا يمكن بأي شكل من الأشكال نعتهم بالمثقفين؛ إذاً المثقف هو من يملك أداة ثقافية بها يخلد.
الكاتب نوعان
الكاتب نوعان: أصيل يعرف حجم إبداعه ويدرك أن مساراته لا تلتوي ولا تغبر، واضحة وضوح شمس الظهيرة، وقيمه لا تتجزأ، ومبادئه مهما بهم الليل هي هي، لا تتزعزع.
أما الثاني: فمزيف، أو ما يمكن أن نطلق عليه عبارة كاتب حسب الطلب، هو فعلاً كاتب ومثقف لكن لدناءة النفس ولغلبة قوى شره على خيره، ولخوره، كرّس قلمه أو فنّه خدمةً لجهة نافذة نفوذاً محدوداً بطبيعة السنن الكونية، وكذا لمن يدفع.
أهم ما يتميز به النوع الثاني أنه متلوّن كالحرباء، ساعة ما تنتفي مصلحته يمّم وجهه عكس ما كان عليه، بالإضافة إلى أنّه سهل لدى المستبدين دائم الاستعمال من جنابهم، وكثيراً ما يفرطون به لو اقتضت الحاجة، وهذه براثِن يقع فيها بعض الكتاب فيتَّسخون.
كيف يتّسخ قلمُ الكاتب؟
عندما يصبح الكاتب مجرد بوق لمستبد غاشم ينسج له نظرياته ويكتب أدبياته، ويتسكع بين مؤسساته، وينفرد بشاشاته، ويبهرج مقالاته، ويتحدّث باسمه منافحاً عن مشاريعه الوهمية الرجعية، مبرراً لأفعاله محججاً لروايته، ومشرعناً لسواد سلطته، مسانداً لجبروته وإيذائه؛ هنا يتّسخ قلم الكاتب.
يزدري ذاته فيجر قلمه في مسائل التقديس والتعظيم، يستطرد في بذخ التقديس، فيبهرج نصوصه ليعظّم قدر مستبد باطش، أو يروّج نصوصاً نثرية وشعرية مقدِّسة بين العامة والخاصة لتعم فكرة تقديس وتمجيد الأشخاص، ليصل حال المُقدَّس إلى شبه آلهة على البسيطة، وحال المقدِّس إلى عبدٍ بفقه عصره يذل ويسحل.
عندما يكتب فيما يدعم القسوة والخشونة لا محالة سيسهم في صناعة مجتمع خشن يرى في هرج العنف حياة وعدالة تلحظ مداده يتطرّف نحو اتجاه معين؛ كأن يقسو على جنس بشري ما، أو يوجه نباله صوب جماعة ما أو هيئة ما، أو فكرة ما، يحرض على هذا وذاك وتلك، بين طيات أوراقه ما يدعم العنف ويدعو للعنف، قاسٍ في إرشاداته ونصائحه، وحتى المعلومة يقدمها تزمجر مفرداته، من هذه الرحاب يتسخ قلم الكاتب.
تحاصره شروره الجبليّة أو المكتسبة من كل صوب، فيكتب من أجل غرائزه، يستبد قلمه فحشاً في الكلام، أو يُتَفِّه فلا يغادر حديث المؤانسة والمساكنة، فيتسخ قلمه أيما اتساخ.
عندما يسيلُ حِبره في توافه الشؤون، ويغور في سفاسف الأمور، ويجفّ عند عظائمها، ويتجافى ما يمجد النفوس ويقوي عزائمها، ويعظّم عقولها، وينمي ألبابها، ويكتب فيما يبذر التفاهة بكل صورها بين الغيدان والشيوخ، ويتجاهل مشاغل واهتمامات وأولويات الأفراد والقضايا المصيرية، ينزل قلم الكاتب إلى الحضيض فيتسخ.
عندما يفقد الاتزان ويحيد عن لغة العقل والمنطق فيكتب بعاطفةٍ ومزاج خفيفٍ، فينحاز بشكل فاضح، يُزيل الزّيف عن حدة مزاجه وعدم انضباطه، فيكرس لفوضى الأفكار وركيكها، ويبعد عن وسط معتدل، فيتراءى للقاصي والداني مدى هشاشة وضحالة دواخله، ومدى تنافرها مع الموضوعية والشفافية، فيقلّ شأنه ويتسخ مداده.
عندما يدوّن بإبداع في التّفتّت لا الاجتماع، كخوض قلمه فيما يُحزّب ويَذهب بأطياف الأمة الواحدة شذر مذر؛ هنا يساهم بشكلٍ رئيس في تقويض أسس الأمة.
الأمم المنتصرة تتعالى على أي أفكار تسعى في مساس وحدتها، وهلهلة نسيجها؛ لأن الوحدة هي الأساس، والكاتب الذي يسخّر قلمه ليشتت أفراد المجتمع أو الأمة أو الإنسانية، فذاك لا يعني إلا اتساخ قلمه.
إذا عبر قلمُ أيّ كاتبٍ منْ هذه الأرجاء وما يماثلها؛ فهذا لا يعني إلا اتّساخ حبر كلماته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.