لتِبيان العطب القاتل للتعاضد طَرَح الحبيب بورقيبة مثالاً عميقَ المغزى، في مرويّة قديمة، عن تشارك ثلاثة رجال في شراء حمارٍ يكون مصدر رزقهم، على أن يقتسموا مسؤوليته، فيبيت ويطعم كلّ ليلة عند أحدهم، غير أنّ الأوّل تجنّب إطعام الحمار قصد توفير ثمن العلف لنفسه، معوِّلاً على أن تقع هذه النفقة على عاتق شريكيه، لكنّهما حملا نفس مأربه بغية انفراد بربح أكبر، هكذا إلى أن مات الحمار جوعاً فخسروا مورد رزقهم.
هنا أوضِح أنّ الحكاية جاءت على لسان الرئيس التونسي الأسبق بورقيبة، في مستهلّ اعتماد تجربة التعاضد التي دافع عنها وسوّق ونظّر لها محلّياً ودولياً، لكن قبل أن نمرّ إلى تبنّي "حمار" التعاضد وجوعه وفنائه، والتبرّؤ البورقيبي منه، دعونا نعود إلى أصله في تونس.
التعاضد سليل الفكر اليساري
جليّ أنّ التعاضد سليلٌ هجين أو مشوّه للفكر الماركسي، ولأنّ موجات تفشّي هذا الفكر ترتبط بأزمات غريمه الحبيب رأس المال، فقد كانت فترات بروز مظاهِرِه بتونس خلال فترة الركود الاقتصادي، التي أعقبت الحرب العالميّة الأولى، وأزمة الثلاثينيات، ثمّ بعد الحرب العالميّة الثانية.
ففي 1924 أسّس محمد علي الحامّي أولى التعاونيّات الاستهلاكيّة، وضمن الإطار النقابي المائل يساراً ترعرع مشروع التعاضد في رحم الاتحاد العام التونسي للشغل، الناشئ بعد الحرب العالميّة الثانية، وقد تجلّى في تعاضديّة كروم قرطاج وغيرها، وما لبث أن صار ركيزة للبرنامج الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي أعدّه الاتحاد سنة 1955.
قد عمد بورقيبة إلى التنصيص على جانب مهم من هذا البرنامج ضمن مؤتمر الحزب الدستوري الجديد في السنة نفسها، لا عن قناعة بالتعاضد، بل خياراً أو مناورةً سياسيّة لإرضاء اتحاد الشغل، حليف الحزب، بمعيّة فرنسا في الحرب الأهليّة ضدّ اليوسفيين.
ما إن رجحت كفّته في الحرب وأمسك زمام الحكم بعد انتخابات مزوّرة جرت في خضمّ الحرب، حتّى نكس عن تبنّي التعاضد، بما وتّر العلاقة مع الاتحاد، وبلغ الموقف من الحدّة أواخر 1956 أن مزّق بورقيبة وثيقة برنامج الاتحاد بغضب أمام الأمين العام للاتحاد أحمد بن صالح، قائلاً إنّه لن يسمح بتنفيذه إذ رأى أنّ التقرير الاقتصاديّ والاجتماعيّ مأخوذ من الفكر الشيوعي.
غير أنّ خيار بورقيبة في تبنّي سياسة اقتصاديّة ليبراليّة مرتبطة بالرأسماليّة العالميّة، غداة "الاستقلال"، لم يؤت أُكله. فعلاوة على تبعات الاستعمار، وإضرابات الاتحاد، وشرخ الحرب الأهليّة داخلياً، والوضع المتوتّر في الجزائر، فإنّ الحزب الحاكم، حديثَ العهد بالسلطة، لم يحمل مخطّطاً وبرنامجاً اقتصادياً واضحاً، حاله من حال من صعدوا بعد ثورة 2011، فراح يتخبّط دون أن يعرف للثبات طريقاً في فترة التأسيس الجديد، رغم نجاح بورقيبة في الاستبداد بالسلطة بعد الإطاحة بالملكيّة، وسيما تدجين الاتحاد بخطّة ذكيّة أطاحت أوّلاً ببن صالح من الزعامة، ثمّ جعلت منه وزيراً للصحّة، أو كاتب دولة كما كانت تسمية هذه الخطة وقتها.
التعاضد في حضانة بورقيبة والدولة
وسط العثرات مثّل أحمد بن صالح أحد الاستثناءات الناجحة وأبرزها في وزارة الصحّة، فأضاف إليه الرئيس التونسي الأسبق بورقيبة حقيبة الشؤون الاجتماعيّة، ليواصل عمله البنّاء بإرساء دعائم منظومة صحيّة واجتماعيّة جدّ محترمة برز أثرها الإيجابيّ سريعاً.
بالنظر لتردّي الوضع الاقتصاديّ وإخفاق إطارات حزبية قليلة الخبرة في تقديم مخطّط يكفل من النموّ ما يثبّت أقدام النظام الفتيّ، رقّ بورقيبة أخيراً لـ"بن صالح"، ومنحه حقيبة التخطيط، وتبنَّى التعاضد ونقله من رحم الاتحاد إلى حضانة الحزب أوالدولة.
"الحزب أو الدولة" فقد اختلط المصطلحان وصارا يحملان نفس المعنى تقريباً في تلك الفترة، ولعلّ ثالثهما كان بورقيبة، الذي يبدو أنّه أراد من النموذج الاشتراكيّ نظام الحزب الواحد المستبد لا النهج الاقتصادي. لتنتج عنه منظومة اقتصاديّة هجينة بقطاع عام وقطاع خاص وقطاع التعاضد، وانطلق الوزير "بن صالح" بمخطّط ثلاثيّ، تلاه آخر رباعيّ، ثم أخير لم يكتمل جرّاء سقوطه.
راح بورقيبة ينظّر لمزايا التعاضد، ويختلق له الفضائل قصارى جهده، ولسانه طوال تلك العشريّة، وسواءٌ كانت حقاً أو باطلاً فقد وجب الانصياع لها ولو قسراً، فهو- والحزب والدولة- من نظّر وأصرّ عن غير دراية لجعل الفلّاحين يتركون ما اعتبره عادة بالية في زراعة القمح والشعير لصالح التنويع بمنتجات أخرى، دون إدراك أنّ الحبوب عماد الأمن الغذائيّ، وصارت تونس تستوردها في عهده وجرّاء سياسته مع تفاقم العجز فيها بتوالي السنين.
التجربة القسرية وأزمة الفلّاحين ومكابرة الساسة
لم يختلف الأمر مع التعاضد، فالفلّاحون لم يفهموا تلك منظومته الهجينة الغريبة عنهم، وأغلب من تقبّلها فعل ذلك على مضض وتوجّس أو طمعاً، سيما بعد الجلاء الزراعيّ وعمليّات ضمّ عدد من الأراضي إلى الأراضي الصغيرة للفلّاحين، في إطار عام كانت سمته فوقية النهج وتنامي الفساد والمحسوبيّة.
فيما كان الفلّاح المنخرط في المنظومة يتلكّأ ويتّكل على توجيه وتسيير إطارات دولة ضعيفة الكفاءة، كانت الدولة تعوّل على مجرّد جمع الفلاحين في تعاضديّة بأرض أوسع لتدرّ إنتاجاً أكبر وتخلق الثروة ومواطن الشغل، كلّ هذا مع فرضها أسعاراً بخسة للمُنتَج الفلاحي، قصد أن يصبّ ذلك في صالح قطاعات أخرى كالصناعة والسياحة.
لأنّ ضعف الكسب يجعل المرء يكفّ عن السعي وراءه، فقد شهدت تلك الفترة جفولاً واضحاً عن التعاضد، وموجة نزوح ريفيّ كبيرة بلغت 110 آلاف نازح سنة 1966، بعد أن كانت في حدود 35 ألفاً في 1962، أي أنّها تضاعفت ثلاث مرّات، وتضاعف الإقبال على الهجرة إلى الخارج من 10 آلاف مهاجر سنة 1964 إلى 20 ألف سنة 1969، أي بأرقام تقارب أرقام المهاجرين "غير النظاميّين"، في وقتنا هذا، لكن مع ملاحظة أن تعداد السكان كان حوالي ثلث التعداد الحاليّ.
وبالنتيجة بلغ معدّل أعمار المشتغلين بالفلاحة ما يفوق 40 سنةً، عامَ 1969، ولعلّ تلك الفترة كانت أساس ظاهرة استغلال المرأة الريفيّة في هذا القطاع يداً عاملة بخسة، ورغم موجة الهجرة الكبيرة فقد بقيت نسبة البطالة مرتفعة تقارب وتفوق الـ20%.
رغم مكابرة الرئيس التونسي "بورقيبة"، ووزيره أحمد بن صالح حينَها، وتجميلهما وتزييفهما الواقع، فإنّ الأزمة تتجلّى في خطبهما، فكلاهما يردّ المشاكل إلى التشويه المغرض للتجربة، ودور المضاربين والمحتكرين في عرقلتها، وتخوّف المواطنين وعدم فهمهم رغم التطمينات.
إن كان لقولهما بعض الوجاهة بحكم احتراز كبار الفلّاحين والمستثمرين من التجربة، وما يمكن أن تؤول إليه، وهروب رؤوس الأموال، والعوامل الخارجية، فقد قال بن صالح بوضوح إنّ التعاضديّات يجب أن توفّر مواطن الشغل، كأنّما يبحث عن أرقام تكون حجّته أمام بورقيبة، الذي بدوره بدأ يتوتر من معارضة الناس للتجربة.
وقد استخدم قوّة الجيش لقمع مظاهرات "مساكن" المناهضة للتعاضد، وبلغ حدّ القول بأنّه لن يبقى دوماً متعلّقاً بنظرته، إذ جاء الواقع مخالفاً لها، مقرّاً بأن ماركس لم يخطئ إذ بنى نظامه على مبدأ صراع الطبقات.
قد قامت السلطة فعلاً بإطلاق الرصاص على مناهضي التعاضد في حادثة الوردانين سنة 1969، ما أدى إلى سقوط قتيلين وعديد من الجرحى والمعتقلين، ولعلّ الهدف في تلك اللحظة لم يكن فرض الاستقرار بل التسريع نحو النهاية.
في خضمّ كلّ هذا استنبط بورقيبة تسمية جديدة لهذه التوليفة الهجينة "الاشتراكيّة الدستوريّة"، واستغلّها نهجاً للدّولة، "أمّم" منظّماتها ومؤسساتها ضمنها، حتّى صارت جلّها تدور في فلكه وبإمرته، واستمرّ في تنظيره السوفسطائيّ عن التعاضد داخلياً وخارجياً، وله خطاب في مصر يردّ فيه على من يشكّك ويسخّر الاشتراكيّة الدستوريّة، بدعوى أنّها ليست اشتراكيّة علميّة تقوم على النهج الماركسي.
إذ يقول: "إنّ اشتراكيّته راعت الاعتبارات المحليّة وأنّها جدليّة حيّة من صميم الواقع، ولم تحِد في جوهرها وروحها عن أصول الاشتراكيّة المسماة علميّة"، ولم يفوت الفرصة في خطاب له بتونس للسخرية من نهج نظيره المصريّ حينَها في الإصلاح الزراعي، حيث التأميم منح الفلّاحين أراضي صغيرة، ليس لإنتاجها أفق ذو بال، فيما الاشتراكيّة الدستوريّة جمّعت الأراضي بغرض توسيع الآفاق، والإنتاج، وقد كانت نتائج التجربة وخيمة.
فشل تجربة بورقيبة.. والشمّاعة الوزير أحمد بن صالح
كانت بوادر التأزّم جليّة كما تبيّن الأرقام والحالة الشعبيّة المتململة، وفاقمتها موجة الجفاف، ما جعل الرئيس التونسي "بورقيبة" يجهّز لرمي الوِزر على وزيره، وتتبين نواياه من خطاب له في "قفصة"، عندما قال: "إنّ الناس لو فشل التعاضد لن يقولوا إنّ بورقيبة لم ينجح، بل إنّ بن صالح لم ينجح".
لعلّه التجأ في تلك الظروف المتأزّمة إلى الدفع نحو الانفجار، بالسير نحو تعميم التعاضد وإقراره بُعيد حادثة الوردانين، ذاهباً إلى الكابوس الذي خافه مالكو وسائل الإنتاج في تونس، ملقياً بالثقل كلّه على وزيره، ثمّ مؤجّجاً الحزب ضدّه، لينقلب أحد الاجتماعات إلى شبه محاكمة له من مجموعة رأت في صعوده شخصيّةً ثانية في الدولة.
وزير كلّ شيء، كما وصفه إدغار فور، يهدد طموحها ومصالحها، بعد أن طُرِح موضوع خلافة بورقيبة، إثر أولى الأزمات الصحيّة القويّة بجلطة في القلب سنة 1967، وتواصل السقوط وإلقاء كلّ الوِزر على الوزير أحمد بن صالح، فسُحبت منه حقيبة الاقتصاد أوّلاً، ثمّ عُرِض عليه منصب سفير بمدريد قبل إقالته واعتقاله بتهمة الخيانة العظمى، ومحاكمته وسجنه بتدبير من زوجة بورقيبة ورهطها، ليكون شمّاعة المرحلة، وكبش فداء بورقيبة، وقد قوبل التخلّي عن التعاضد بتأييد شعبيّ، واقتصر السخط على بن صالح.
شبح التعاضد يعود مع الشركات الأهلية
يطول الحديث عن التعاضد بما لا تحتمله هذه المساحة، لكن منه أعرّج إلى التجلّي الجديد له، متمثّلاً عند قيس سعيّد تحت تسمية الشركات الأهليّة، والذي يبرز كالعادة مع أزمة الرأسماليّة عالمياً ومحلياً.
وهنا وجب التنويه بأنّ سعيّد يجلّ دولة بورقيبة، ويرى نفسه القادر على تصحيح انحرافاتها وإنجاحها، يرى في نفسه بورقيبة الذي سينجح، ويتجسّد اهتمامه بفترة التأسيس الفاسدة تلك من خلال حديثه بداية عن فرضيّة تعديل دستور 1959، وطرح فكرة تعديل برنامج التربية الكارثي لـ 1958، وأخيراً بأهليّته المشابهة للتعاضد، وهو يعدّل ويبدّل بما يقتضى الظرف والهوى.
فقد فشل سعيّد في إزاحة المنظومة الفاسدة بشقّيها الاقتصاديّ والثقافي، وارتكن كمن سبقوه إلى مسايستها ومحاباتها، مقابل خوض المهاترات السياسيّة والبقاء على نفس التوجّهات الثقافيّة البالية لدولة ما بعد "الاستقلال".
تتشابه حيثيات إنفاذ شركاته الأهلية مع سابقه في فوقيّة النهج وفرديّة القرار، والفاسد القائم والمتفشي في مرحلة التأسيس وهو الأخطر والمؤذن بالفشل، والوضع الاقتصاديّ المتأزّم والارتهان للقروض وشروطها، والتصوّر الهجين لقطاعات ثلاثة: عام وخاص وأهليّ، وافتقاره للدعامة العلمية، مع عدم تقديم أيّ نقد للتجربة السابقة للبناء عليه، باعتباره الشركات الأهليّة تأسيساً جديداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.