الحد الأدنى للأجور
مع بداية شهر مارس الجاري، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي عن حزمة إجراءات، تشمل زيادة الحد الأدنى للأجور للعاملين بالجهاز الإداري للدولة، ليكون 3500 جنيه (نحو 116 دولاراً)، بزيادة تُقدر بـ500 جنيه عن الحد الأدنى السابق، اعتباراً من راتب أبريل 2023، مع زيادة معاشات التقاعد بنسبة 15%، ورفع حد الإعفاء الضريبي على الدخل السنوي من 24 ألف جنيه إلى 30 ألف جنيه سنوياً، بالإضافة إلى زيادة الفئات المالية الممنوحة للمستفيدين من برامج تكافل وكرامة بنسبة 25% شهرياً.
هل ارتفعت الأجور حقاً؟
بعد أيام من قرار الرئيس المصري، كشف البنك المركزي أن معدل التضخم الأساسي ارتفع خلال شهر فبراير ليقفز إلى 40.3%، ليواصل التضخم الأساسي رحلته في الارتفاع، التي بدأت العام الماضي، حيث ارتفع إلى 10% لشهر مارس 2022، واستمر في الصعود ليسجل 11.9% لشهر أبريل، وفي مايو 13.3%، ويونيو 14.65%، وسجل في يوليو 15.6%، وأغسطس 16.7%، وسبتمبر 18%، ونسبة 19% في أكتوبر، ونوفمبر 21.5%، وسجل خلال ديسمبر 24.5%، ومعدل 31.2% لشهر يناير 2023، وصولاً إلى النسبة غير المسبوقة التي وصلت إليها معدلات التضخم خلال فبراير من العام الحالي.
وهذا الارتفاع المستمر في التضخم، بالإضافة إلى انخفاض قيمة العملة بنحو 59% آخر 12 شهراً، يدفعنا إلى التساؤل عن النسبة الحقيقية لزيادة الأجور، وهل زادت بالفعل، خصوصاً إذا وجدنا أنها خلال تلك الفترة 2023 زاد الحد الأدنى للأجور بنحو 800 جنيه، وبنسبة ارتفاع تقترب من 29.6% فقط، وهو ما يوضح التفاوت بين نسبة هذه الزيادة، وأرقام التضخم، وحجم تراجع الجنيه، الذي يُمثل ضعف زيادة الحد الأدنى للأجور.
وعلى سبيل المثال عندما نعود إلى قيمة الحد الأدنى في أكتوبر 2022، سنجد أنه كان نحو 2700 جنيه، أي 140 دولاراً (سعر الصرف حينها 26.19 جنيه)، ومع تعويم الجنيه وانخفاض قيمة العملة، وبالرغم من قيام الرئيس المصري بزيادته خلال شهر مارس الحالي 2023 إلى 3500 جنيه، فإن هذا المبلغ بعد الزيادة لا يمثل إلا نحو 113 دولاراً، بسبب زيادة سعر الصرف إلى 30.90 جنيه للدولار الواحد.
وتُظهر المؤشرات أن هبوط سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار خلال آخر 10 سنوات كان بنسبة 275%، حيث يتبين أن قيمة الأجور الحقيقية المقومة بالدولار قد انخفضت بنسبة 35%، بالرغم من قرارات رفع الحد الأدنى خلال هذه السنوات.
عدم فاعلية رفع الحد الأدنى للأجور
يرى العديد من الخبراء أنه بدون السيطرة على التضخم عن طريق توسيع الاستثمارات في القطاع الصناعي والزراعي، مع إزالة العقبات أمام مشاركة القطاع الخاص المعني بالإنتاج، فلن تؤدي زيادة الحد الأدنى للأجور إلى رفع مستويات معيشة العاملين، وستبقى مجرد أوراق مالية يأكل قيمتها التضخم المستمر في الارتفاع، نتيجة انخفاض سعر صرف الجنيه. كما أن زيادة الأجور قد يكون لها تأثير سلبي، وتساعد على رفع معدلات التضخم، لأنها زيادة غير مرتبطة بحلقة الإنتاج.
هذا إلى جانب ضرورة العمل على كبح مستويات التضخم، ورفع الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص أيضاً، الذي يضم مع القطاع غير الرسمي نحو ثلثي القوى العاملة، ويقل متوسط الأجر فيه إلى أكثر من 45%، مقارنةً بمتوسط الأجر في الحكومة، بحسب بيانات الجهاز المركزي للمحاسبات.
كما يوصي المختصون بضرورة رفع حد الإعفاء الضريبي، الذي يقل عن الحد الأدنى للرواتب حتى لا تتضرر النسبة الأكبر من محدودي الدخل، بالإضافة إلى وقف العمل المؤقت ببعض الضرائب القائمة كضريبة القيمة المضافة، التي تلعب دوراً مهماً في تغذية التضخم.
بداية اغتيال منظومة الأجور الحكومية
في عام 2015 أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي حزمة من التشريعات الجديدة، التي كانت تستهدف تقديم المزايا للمستثمرين، وأصدر قانون "الخدمة المدنية" الذي كان عبارة عن قانون ضخم، يحتوي على العديد من التعديلات الجريئة، التي تحتوي على عقبات في علاقة الدولة بالموظفين، لم يجرؤ أحدٌ من قبل على الاقتراب منها.
أبرز هذه التعديلات كانت تنص على فتح الباب لتسريح العمالة، وهو ما كان يصطدم مع الميزة الأساسية للوظيفة الحكومية، التي تجعل الناس يُقبلون عليها رغم أجورها المتواضعة، وهي الأمان الوظيفي، وكونها وظيفة مضمونة طوال العمر.
وبحسب كتاب "متى ينتهي الغلاء في مصر؟" الذي اشترك في كتابته ثلاثة كُتاب مصريين، فإن النظام الجديد للأجور أوقف الزيادة المعتادة في معدلات الأجور التي يحصل عليها العاملون بالقطاع العام، إذ نص مواد القانون على تجميد العلاوات والحوافز التي كانت تُصرف كنسبة من الأجر الأساسي، وعلى مدار السنوات التالية مكَّن هذا النظام من تخفيض معدل نمو ميزانية الأجور في كل عام، وهو ما تم ترجمته إلى تآكل في القيمة الحقيقية لأجور الموظفين في مواجهة معدلات التضخم المرتفعة.
ومثَّل نظام الأجور، الذي بدأ في 2015، تحولاً سياسياً مهماً في تاريخ علاقة الدولة بالموظفين، واتضح بعد ذلك أن الدولة لم تكن تهدف من هذا القانون لإصلاح الجهاز الحكومي، أو تحسين الخدمة الحكومية، وكان الهدف الرئيسي أن مؤسسات التمويل الأجنبي، على رأسها صندوق النقد الدولي، كانت تضع قضية ميزانية الأجور الحكومية على رأس أولوياتها، وتضع بند تقليل أجور الموظفين، وتقليل عددهم، على رأس أولوياتها ومطالبها، من أجل منح مصر ما تحتاجه من قروض.
استراتيجية التخلص من العاملين في القطاع الحكومي
كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد قال في كلمة له، في فبراير 2016، إن هناك 7 ملايين موظف لا تحتاج الحكومة منهم سوى مليون فقط، ومع نهاية العام، ونتيجة تبني مصر برنامج الإصلاح الاقتصادي بالاتفاق مع الصندوق، نجد أن ميزانية الأجور واصلت التدني، رغم ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات تاريخية في نهاية العام، بسبب سياسة تحرير سعر الصرف.
ووفقاً لآخر إحصائية لعدد العاملين في القطاع العام في مصر، التي أصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في مارس من العام الماضي، فقد انخفض عدد العاملين بنسبة 9% على أساس سنوي إلى 695.3 ألف عامل عام 2021.
إذ تراجع عدد العاملين في قطاع الأعمال العام في مصر بصورة مستمرة على مدار الأعوام الماضية، وهبط بأكثر من 15% منذ عام 2017. ووفقاً لاستراتيجية التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030، فإن الحكومة المصرية تستهدف خفض عدد الموظفين إلى 3.8 مليون موظف عام 2030.
ويأتي هذا التراجع في عدد العاملين تنفيذاً لخطة الحكومة لتقليص عدد الموظفين في الجهاز الإداري للدولة، تنفيذاً لبرنامجها للإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي، إذ اعتمدت الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة نظام المعاش المبكّر لخفض عدد الموظفين، وحظر التعيينات نهائياً، مع الحد من الإعلان عن الوظائف في الحكومة.
الوظيفة الحكومية كأداة للولاء السياسي
على مدار التاريخ كان الجهاز الإداري للدولة أهم الجهات التي يُقبل عليها الخريجون للحصول على وظيفة مستقرة ذات وجاهة اجتماعية، في الوقت الذي بدأت فيه الدولة بعد ثورة يوليو باستهداف سياسات توظيف على أسس موضوعية، بحيث تكون موجهة إلى سد احتياجات الجهاز الإداري للدولة، وكانت هذه السياسة تتعلق بالالتزام بتعيين الخريجين في أجهزة الدولة من دون اختبار، وتحولت مع الوقت إلى نوع من الاستحقاق المكفول لكل مواطن.
وكانت سياسة تعيين الخريجين عنصراً أصيلاً في النظام الاجتماعي الناصري الذي قام على ركيزتين أساسيتين، الأولى هي تثبيت الأسعار من خلال الدعم السلعي والتسعير الإجباري، والثانية توفير الوظائف لشريحة واسعة من الطبقة المتوسطة في المؤسسات التابعة للدولة، وهو ما كان يجعل سياسة التعيينات تتحول إلى نمط من السياسات التوزيعية، التي تهدف لكسب الولاء السياسي، ورغبة السلطة في أن تُسهم في توفير مستوى ملائم للعاملين بالحكومة، يخلق تأييداً سياسياً وشعبياً للنظام.
وللمفارقة، خلال عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر لم تكن ميزانية الإنفاق على الأجور تشكل عبئاً كبيراً، فقد أنهى الرئيس الأسبق آخر عام مالي له في الحكم ومعدلات الإنفاق على الأجور كنسبة من إجمالي نفقات الدولة لا تتجاوز 15%.
ومنذ منتصف السبعينيات، حاول نظام السادات تطبيق سياسة تسعى إلى السيطرة على الإنفاق العام، واعتبر منظومة الأجور القديمة إهداراً للمال العام، وحاول تغيير سياسات التوظيف الناصرية، عبر تغيير شروط التوظيف، وسعى إلى تحديد أجور الموظفين على أساس أدائهم، في محاولة لكبح جماح الأجور، ولم يستطع النظام الساداتي إيقاف عملية التزام الدولة بتعيين الخريجين في الجهاز الإداري، وكل ما استطاع أن يفعله هو الالتفاف حول هذا التعهد.
ومع تولي الرئيس الأسبق مبارك زمام الحكم في مطلع الثمانينيات، عمل على إرضاء العاملين بالدولة، عن طريق الحفاظ على معدلات مرتفعة من الإنفاق على الأجور، ويقول سامر سليمان: "كانت الرشادة الأمنية تتطلب أن يركز على تأمين الحد الأدنى من الدخل لبيروقراطية الدولة، حتى لو اقتصر تأييدها لذلك على مجرد الدعم السلبي، أي الامتناع عن الخروج عليه"، ليكون العنوان الرئيسي لسياسات مبارك في مواجهة الغلاء، التي اشتهرت بين المواطنين بتعبير: "العلاوة يا ريس"، من خلال استجداء اتحاد العمال زيادة الأجور من الرئيس، لتتماشى مع غلاء الأسعار، وهو ما يشبه قليلاً الطريقة التي قام بها الرئيس الحالي بزيادة الأجور، وسط جمع من المواطنين الذين فرحوا وهللوا لهذا القرار، لتبدو أنها منحة منه لمواطنيه الذين أثقلهم ارتفاع الأسعار وتقلص أجورهم.
ويربط الكثيرون بين الارتفاع في نسبة العلاوات في عصر مبارك، وحاجة الأخير لتأمين الرضا الشعبي في أوقات الانتخابات، وقد بدأت سياسة العلاوات الخاصة مع ثاني استفتاء رئاسي، وكانت مرتفعة نسبياً، حيث وصلت إلى 20%، وتفوق الرئيس بالطبع خلال الاستفتاء بدون منافسة.
وهناك ربطٌ ما بين كون العلاوة الخاصة تتم إضافتها كل 5 سنوات، والإلزام الدستوري بالاستفتاء على الرئيس كل 6 سنوات، وهو ما جعل هناك مقايضة على استمرار نظام مبارك مقابل حماية الأجور من التضخم.
انهيار منظومة الأجور الحكومية
يرى الباحث محمد جاد في الكتاب المذكور، أنه رغم أن منظومة الأجور الحكومية خلال العهود التي سبقت حكم الرئيس الحالي لم تكن سخية، ولكن موظفي الحكومة كانوا من المحظوظين بحصولهم على فرصة عمل مستقرة وأجور تتطور سنوياً تحت نظام الحوافز.
وكانت الدولة على مدار العقود السابقة تسعى إلى ابتداع نُظم حوافز جديدة، تحفظ للعاملين الحدَّ الأدنى من الحياة الكريمة، لكن ما حدث في السنوات الأخيرة هو أن منظومة الحوافز القديمة انهارت، وأصبحت القيمة الحقيقية لأجور القاعدة العريضة من هؤلاء الموظفين تتآكل بقوة تحت ضغوط التضخم، مع الارتفاع غير المسبوق في أسعار السلع الغذائية الأساسية.
وفقاً لتقرير لمنظمة العمل الدولية، فإن ارتفاع التضخم أسهم في خفض القوة الشرائية للطبقات الوسطى، كما أن له تأثيراً مضاعفاً على الأسر ذات الدخل المنخفض بشكل خاص، وذلك لأنهم ينفقون معظم دخلهم المتاح على السلع الغذائية والخدمات الأساسية، التي تشهد عادةً زيادات في الأسعار أكبر من المواد غير الأساسية، ما يلقي بظلاله على زيادة نِسب عدم المساواة في الدخل والفقر، إذا لم يتم الحفاظ على القوة الشرائية لأصحاب أقل الأجور.
ضغوط متزايدة تُسهم في تآكل الأجور
تأتي زيادة الحد الأدنى للأجور للعاملين بالجهاز الإداري للدولة في الوقت الذي تتوقع فيه عدة بنوك عالمية مثل "كريدي سويس" و "سوسيتيه جنرال" المزيد من الانخفاض في قيمة الجنيه، وأن يخسر نحو 10% من قيمته قبل نهاية الربع الأول من العام، أي نهاية مارس الجاري. ويرى بنك "سوسيتيه جنرال" أن سعر 34 جنيهاً مقابل الدولار الواحد ربما يكون واقعاً بحلول نهاية الشهر الجاري.
كما رجَّح بنك "كريدي سويس" أن يصل سعر الدولار في مصر إلى 35 جنيهاً، كما يتفق "بنك أوف أميركا" على أن الجنيه سيواصل انخفاضه خلال الفترة المقبلة، لكنه لم يحدد مستوى معين للهبوط، كما تشهد العقود الآجلة غير القابلة للتسليم قبل 12 شهراً ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه، ليصل إلى 38 جنيهاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.