الرحالة الذي سئم السفر..
"من يحب كرة القدم، بالتأكيد لا بد أن يحب مسعود أوزيل"
– أرسين فينجر
كعادة هذه القصص، هاجرت أسرته من تركيا إلى ألمانيا بحثاً عن حياة أفضل وفرص حقيقية للعيش.
وحين دخلت ألمانيا، وجدت نفسها مُحاصرة بالغربة والفقر وثقافة ولغة جديدة، فبات الأمر أصعب وأكثر تعقيداً، لكنه كان طوق النجاة الذي تمسكوا به لتغيير مسار حياتهم المُضنية.
أخذ مسعود الكرة على محمل الجد، وبدأ في ممارستها لدرجة أنه كان يصطحبها معه إلى سريره، ومن هنا أدركت أسرته أن عليهم أن يستثمروا موهبته لصالحه وصالحهم.
وتدرج بطريقة سريعة فيها، إلى أن وصل إلى نادي شالكه، أي أن موهبته أسعفته لما وصل إليه، وهناك، رأى مدرب شالكه أن مسعود لن يستطيع المواصلة في هذه اللعبة، بعد 30 مباراة دون تسجيل أي هدف!
ليأتي عرض من فيردر بريمن ويخطفه إلى صفوفه، في فيردر بريمن بدأت الحياة تفتح أبواب الخير له، ووجد نفسه يُمثل ويرتدي قميص منتخب ألمانيا الأول ويخوض غمار كأس العالم في جنوب إفريقيا رفقة كتيبة من عناصر شابة تصغره وتكبره بعام أو عامين لا أقل ولا أكثر.
وكان طموح ألمانيا في هذا الجيل، أن يحقق ما عجز عنه السابقون، وكان مسعود أوزيل بالفعل هو أحد أبرز نجومهم في مونديال جنوب إفريقيا رفقة توماس مولر.
وخرج من جنوب إفريقيا إلى دولة غير التي عهدها طوال حياته، خرج إلى ريال مدريد، اللاعب الموهوب أصبح قطعة مهمة يُعتقد أنه سيحل بديلاً للبرازيلي ريكاردو كاكا إذا تأزم الأمر.
لكن الظروف لعبت دوراً في قصته، ولأسباب يطول شرحها أصيب ريكاردو كاكا وأصبح مسعود أمام فرصة مؤاتية لينفرد بالمركز الأساسي في صفوف ريال مدريد، وهو ما حدث فعلاً.
وأصبح مسعود أوزيل قلب ريال مدريد الذي يضخ الإبداع فيه، ويتآلف مع البرتغالي كريستيانو رونالدو ويكونان ثنائية عظيمة، ويتحول إبداعه إلى أرقام واضحة يتصدر أو يُنافس في كل سنة على قائمة أفضل الممرين في الليجا الإسبانية.
وأخذ مكان كاكا بل وأصبح لا يُمس في صفوف الفريق، إلى أن بحث ريال مدريد عن توليفة جديدة تعتمد في الأساس على الاستغناء عن كاكا وأوزيل شخصياً.
وحزن زملاء أوزيل في الفريق على طريقة رحيله ورحيله أيضاً، وظنوا أنه سيتحول إلى أحد أساطير ريال مدريد من شدة تناغمه مع البقية، لكن هذه المرة كان التحدي أصعب وأثقل على نفس وجسد مسعود.
لما ذهب إلى أرسنال، كان يعتقد أن ما يمكنه فعله سيتناسب طردياً مع ذكرياته في الدوري الإسباني والألماني، لكنه تغافل عن نقطة مهمة، أن الدوري الإنجليزي يتمتع بقوة بدنية رهيبة أثبتت ضعف بنيته الجسدية وصعوبة تأقلمه حتى وإن كانت أرقامه لا توحي بأنه يُعاني كل تلك المعاناة!
وعلى الرغم من أن الرحالة مسعود أوزيل، طاف أوروبا كلها تقريباً: بين ألمانيا وإسبانيا وإنجلترا وتركيا، إلا أنه لم يشعر بالراحة في أي مكان سوى جذوره الأصلية تركيا.
"الجانب الإبداعي والفني أستمده من جذوري التركية، والانضباط والالتزام أكتسبه من الجانب الألماني لنشأتي".
رأي واحد يتسبب في إنهاء مسيرة!
ربما لم يجد مسعود أوزيل مشكلة قابلته في ألمانيا وإسبانيا كروياً، لكنه واجه في إنجلترا مشكلة العامل البدني، والذي نصحه مدربه أرسين فينجر في أرسنال، ومدربه يواكيم لوف في المنتخب الألماني أن يُغير من لغة جسده.
فإذا اتجهت نحوه عدسات الكاميرات، ظن الجميع أنه يفتقد إلى روح الحماس والتشجيع الذي من المفترض أن يتمتع بها كنجم لامع حقق كل ما حقق في مسيرته الكروية التي تُصنف على أنها "رائعة".
وهذا ما جعله تحت رحمة الصحافة والإعلام في إنجلترا، "شارداً يكون، ملامحه توحي دائماً بالهزيمة، قائد بلا شخصية".. هكذا كان يوصف.
لكن المشاكل التي كانت تنتظره في ألمانيا كانت أبعد من الكرة، كانت مشكلة ثقافة وتراث، كانت مشكلة عِرق ربما.
ظل مسعود أوزيل ألمانياً ما دامت ألمانيا راضية عنه، إلى اللحظة التي التقط فيها صورة رفقة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، صورة عادية مثل التي التقطتها إلكاي غوندوغان وغيره من النجوم الألمان الذين يتمتعون بجذور تركية.
لكن الصحافة والإعلام وحتى القيادات الألمانية لم تغفر لمسعود ما فعل، وتزامن الأمر مع نكسة خروج ألمانيا من دور المجموعات في كأس العالم 2018 في روسيا.
خلال كأس العالم اتهموه بالتكاسل والتواكل، وأنه لا يستحق ارتداء قميص المنتخب الألماني، هو تحديداً، وكبدوه مرارة الخروج المخزي لبطل العالم في النسخة السابقة، ثم أتت هذه الصورة لتضع المسمار الأخير في نعش مسعود أوزيل وكنيته الألمانية!
وبعد سيل من الهجوم والتشريد به ووصفه بأنه "لاجئ" انفجر مسعود أوزيل أخيراً في وجه الجميع، وقال: "في ألمانيا إذا فُزت أصبحت ألمانياً، وإذا خسرنا تحولت إلى لاجئ!".
ليُعلن رسمياً نهاية تمثيله الطويل لمنتخب ألمانيا ويعتزل اللعب دولياً دون أن يطلب منه أحد أن يعدل عن قراره.
ظل اسم مسعود أوزيل مرتبطاً بالسياسة، حينما تحدث عبر حسابه على منصة تويتر عن الأوضاع السيئة التي يعيشها مسلمو الإيغور، وهم أقلية مستضعفة في الصين تتعرض للتعذيب جراء طقوسهم الدينية ليس إلا!
هل أدرك مسعود أوزيل ما كان سيحدث له نتيجة لتحدثه؟ ربما أدرك، لكنه وبكل تأكيد لم يتوقع أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه حقاً.
لم يتوقع أن يتم منعه من الألعاب الرسمية في الصين، ولم يتوقع أن يخسر شعبيته الجارفة هناك، لم يتوقع أن تُغلق النوادي الخاصة بمحبيه إثر حديثه الذي وصفته الصين بأنه عدائي.
وبسبب الشراكة الصينية مع أرسنال، لم يُدافع أرسنال عن لاعبه، بل وأكدوا أن حديث الألماني التركي هو مجرد ردة فعل فردية لا علاقة للنادي بها!
وأصبح مسعود أوزيل وحيداً أكثر من أي وقت مضى، ومع وصول أوناي إيمري لم يتناسب ما يُقدمه أوزيل مع المدرب الإسباني لذلك قرر حذفه من قائمة أرسنال، وقالوا إن قرار الحذف والتهميش شمل مسائل أكبر من أوناي إيمري والبطولات، ربما كان قراراً إدارياً لما فعله أوزيل، وربما لأن أوزيل تناسى كرة القدم وانخرط في السياسة.
المحصلة واحدة، ظل أوزيل وحيداً، وانتهى به المطاف خارج أرسنال رغم مواصلة دعم رفاقه في الفريق عبر حساباته على منصات التواصل الاجتماعي كاملة، وفي نهاية المسيرة، وجد نفسه يحط رحاله في الدولة التي خرجت منها أسرته واستقر بها فؤاده: تركيا.
شعر أوزيل طوال مسيرته بالخيانة والغدر، من الصحافة والإعلام في ألمانيا تحديداً، ورغم دفعه الضرائب والتبرع للمدارس والمستشفيات الألمانية، والفوز بالنجمة الرابعة للمنتخب الألماني على قميصه في كأس العالم في أرض البرازيل، إلا أنهم كانوا يُعادونه دوماً لثقافته ونسله التركي!
حقق مسعود أوزيل كل شيء ممكن في مسيرته: كأس العالم على قمة الهرم، الدوري الإسباني، كأس إسبانيا وكأس إنجلترا، لكنه افتقر دائماً إلى الشعور بأن له حقيقة ثابتة لا يمكن طمسها، أن يكون إنساناً يُعترف به من دولته التي نشأ بها وتعلم قيمها، لكن ألمانيا تخلت عنه ولم تُساعده ولم تُكرمه بالطريقة التي تليق بلاعب مثله.
مسعود أوزيل يترك منشفته، وهو أحد أبرز لاعبي الوسط في جيله، ومن الأمهر في عالم كرة القدم، علاوة على أنه رجل تحدث في كل الأوقات التي صمت فيها العالم كله!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.