كل عام وأنتم بخير، بينما يحل علينا شهر رمضان، أكتب هذا المقال عنك، عني، عن مجتمع تتآكل طبقاته ويأكل أفراده في بعضهم البعض.
منذ فترة انتشرت على مواقع التواصل الإجتماعي حادثة إلقاء أحد العُمال في مطعم شهير بوسط المدينة لقطةٍ على الطريق؛ مما تسبب في دهسها وموتها فوراً، ورغم ذلك حينما ثار رواد المطعم على العامل ومديره الذين سخروا من الغاضبين، معللين الأمر بأنه مجرد حادث تافه؛ لأن القطة حاولت مزاحمة الرواد على طاولاتهم، وأن الضحية مجرد قطة لا تستدعي كل هذه الضجة.
صحيح أن العامل تم حبسه لمدة ٦ أشهر، ولكني أقف متعجباً أمام حادثة كهذه، وأمام الكثير من الحوادث التي تحدث في مجتمعنا الذي يركض فيه كل البشر يومياً لتعويض انخفاض سعر الجنيه أمام الدولار، ساعين للحصول على ما يكفيهم لمواجهة أزمات اجتماعية شديدة التعقيد واقتصادية عالمية لا يمكن للفرد منا أن يتخطاها بمفرده. أمام كل هذا الضغط الذي نتعرض له يومياً، وضد كل هذا القمع السلطوي الذي يمارسه المصريون على بعضهم البعض باختلاف طبقاتهم للتنفيس عن غضب مكتوم يحضرني قول أمل دنقل: ضد من؟ ومتى القلب في الخفقان اطمان؟
ما يحدث حالياً
أكتب هذا المقال على فترات متقطعة في يومي أبرزها صباحاً في زياراتي المتكررة للمستشفى قبل الذهاب للعمل في محاولات تخطي أزمة صحية جديدة، ثم أكتب جزءاً آخر بعد دوام كامل أعود فيه لطرقعة أصابعي واستعادة شعوري بنفسي كإنسان يعيش في مجتمع منهك اقتصادياً ومشوه اجتماعياً.
يأتي رمضان بمشاعر مختلفة في كل عام، ممتزجة بالترحيب والفرح وفي السنوات الأخيرة ممتزجة بالقلق والخوف سواء من فيروس كورونا كما حدث في أعوام الجائحة الأولى أو القلق من التضخم المالي وانعكاسه على الأصناف التي سيتم إعدادها على مائدة الإفطار في رمضان. هذا العام صعب مادياً، الجميع مهموم، لم يعد أحد يفكر في المستقبل القريب أو البعيد، كلنا نفكر في كيفية تدبير الوجبة القادمة وغذاء اليوم التالي أو الأسبوع القادم على أقصى تقدير، لا أحد هنا يملك أحلام، كلنا يا عزيزي نعيش واقعاً سيئاً.
استعادة
شهر رمضان هو شهر إحدى أكثر العبادات الدينية أهمية، بالإضافة لكونه شهراً قائماً على المشاركة الاجتماعية والعائلية. في كل عام تتبدل الأحوال وينقص من كل أسرة فرد أو يزيد، بالإضافة لقدرة هذا الشهر الكبيرة على إثارة الحنين إلى الماضي في نفوسنا كلما تقدمنا في العمر.
نتغير يومياً دون أن نشعر، نكبر ونجد أنفسنا بعد سنوات مختلفين كُلياً عما كنا عليه. عشر سنوات، خمس عشرة سنة، أرقام كبرى أصبحت في قاموسي وصار عليَّ ذكرها في كل مرة أستدعي فيها شيئاً من الماضي. رمضان في الماضي كان يتمثل في الصيام حتى الظهر وامتلاك فانوس جديد -حتى ولو على شكل ميدالية صغيرة- واللعب في الشارع بمفردي بعد الإفطار واختراع مدفع إفطار مبتكر عن طريقة إضافة عدة ألعاب نارية لبعضها البعض وتزيين مدخل البناية وشرفتها مع جيراني، الآن كل شيء اختلف، رأسي ممتلئ بالأرقام والتكاليف المادية اللازمة لوجود ما يكفي من الطعام في منزلنا طوال الشهر دون الحاجة إلى الاستدانة من أحد، عمر طويل مر على الطفل الذي لعب في الشارع واتسخت ملابسه بعد ربع ساعة فقط من نزول الشارع، صرت أنا الرجل الذي يحمل همَّ أسرة على عاتقه، صرت الرجل الذي يؤدي واجبه تجاه أسرته التي تعيش في عصر التضخم وانهيار الجنيه المستمر أمام الدولار، فجأة صرت محارباً في حياة يومية تشبه ساحة حرب كلنا نركض فيها سعياً لكسب الرزق وإيجاد ما يكفي لسد الرمق ودفع فواتير المياه والكهرباء والغاز والإنترنت!
دورة حياة استهلاكية نعيش فيها وحالياً نجد شهراً كاملاً على رأسها بسبب كل ما يلزم لدعوة المقربين ولمّ الشمل وصلة الرحم.
لحظة
في كل مكان تكثر الإعلانات عن البرامج والمسلسلات اليومية في رمضان، إعلانات بطول كل الطرق الهامة وغير الهامة عن تخفيضات في محلات كبرى للسلع الغذائية التي يعاني المصريون كل يوم من ارتفاع أسعارها.
كل يوم أتأمل في لافتات كوبري أكتوبر التي تعلن عن مسلسل "منى زكي" الجديد أو مسلسل "بابا المجال" لمصطفى شعبان أو غيرهما من الأسماء.
في كل عام تصدر عشرات المسلسلات في رمضان فيما يُعرف بالموسم الرمضاني للأعمال الدرامية التي -وعلى مدار عشر سنوات تقريباً- لا يمكن لأي أحد تذكر أبرزها خلال السنوات الماضية، يمكن أن ينجو من هذه القاعدة ممثل بعينه أو عمل بعينه، ولكن ككل لا قيمة حقيقية تُضيفها هذه الأعمال تزكية الوقت أو إثارة الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي في كل عام.
ليس بالجديد ذكر أن رمضان في كل سنة هو شهر ترويج السلع الراكدة التي لا تُباع ولا تُشترى إلا خلال ثلاثين يوماً فقط، ولكننا في أزمة هذا العام وتحولنا ببُطء من مُستهلك كسول ينتظر دورة العام كاملة حتى يأتي له رمضان ليشاهد البرامج والمسلسلات، يستمع لخطب الحث على الاقتصاد وعدم الإسراف في الطعام كما علمنا رسولنا الكريم لمستهلك مُفلس يعمل في وظيفتين أو أكثر ليتمكن من تغطية المصاريف اليومية الضرورية وتأجيل كل ما يمكن تأجيله.
نظام سنوي
رامز جلال بمحتوى مليء بالتنمر والسخرية الممتزجة بالإهانة لضيوفه، كآبة محتوى مسلسل نيللي كريم، ضجة بلا قيمة لمسلسل محمد رمضان في كل عام، مسلسل كوميدي يحتوي على عبارات ذات مضمون جنسي موارب، إعلانات مدن سكنية فاخرة تبدأ من ٢ مليون جنيه، إعلانات من منظمات مختلفة لجمع الزكاة والصدقة. عشر سنوات تقريباً وهذه الأشياء تتصدر المحتوى المعروض على الشاشات المصرية في رمضان، بلا تجديد تقريباً وبإضافة عنصر أو حذف آخر يتعرض المشاهد لكل هذا الكم من التكرار بعرض سلعة ذات محتوى سيئ، فقيرة فنياً ولا تصلح للنقد الجاد إلا فيما ندر، محتوى مُعبأ جودته رديئة؛ لأنه مشاهد من طبقة متوسطة سقطت أو تكاد تسقط لقاع الفقر؛ لذلك لن يسعى أحد لتحسين جودة ما يراه؛ لأنه في كل حال سيذهب إلى مواقع التواصل الاجتماعي ليسخر من كل هذا، لأنه وكما يقول جيلبرت سينويه في رواية "المصرية" الصادرة عام 1991: "يولد المصري وفي قلبه ورقة بردي مكتوب عليها بحروف ذهبية: إن السخرية هي المنقذ من اليأس". نسخر لأننا كلنا يمكن أن نسخر، ولأن ما نعيشه يبدو وكأنه يحدث في بُعد زمني آخر، وكأن لا شيء حقيقي بنسبة مئة بالمئة؛ لذا فإن الفنان يسخر من رأي المتلقي وقد يظهر على الشاشة ينعت المشاهد بالكسل والتراخي، والمتلقي يسخر من الفنان على مواقع التواصل، والمدير يسخر من الموظفين، والموظفون يسخرون من المدير فيما بينهم، والأب يسخر من أبنائه وبناته، وكل منهم يكتم سخريته وأزمته في قلبه لوقتٍ مناسب. دورة زمنية استهلاكية تعيسة لا أحد ينجو منها، يأتي رمضان كل عام ويصلح كي نتذكر من نحن، وما قيمة ٣٠ يوماً كرام تأتي لتذكير كل شخص منا أننا يجب أن نتذكر الله أكثر مما نُظهر للآخرين أننا نذكره، نتقرب منه بالفعل وليس بالقول، نعبده بقلوبنا أولاً قبل أن نهتم بقول الآخرين عنا، هذا المقال ليس عن رمضان، ولكنه عنك، عني، وعن مجتمعنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.