"المريض أتى ميتاً"
انطلقت هذه الجملة من فم طبيبة الوحدة الصحية وهي تعمل على فحص المريض في الطوارئ، بينما التمريض ما زال يحاول إنقاذه.
توقف الجميع عن العمل لتصرخ بهم الممرضة الأكبر سناً وخبرة أن يستمروا في العمل على المريض، موضحة للطبيبة الشابة حديثة السن، "يجب أن يرى أهل المريض الأطباء والتمريض يعملون على الحالة، لا يمكن أن يتوقفوا ليعطوهم خبر وفاة نجلهم بهذه البساطة".
اندهشت الطبيبة الشابة، ولكن بعد سنوات، عندما تتذكر هذه الحالة، سيكون الأمر اعتيادياً، فالشاب المتوفى أتى للطوارئ بعد ضربة فوق رأسه بـ"شومة" في مشاجرة بمنطقة ريفية، جاء معه عدد ضخم من الرجال الغاضبين المُسلحين بالعصي، وهم ينتظرون إسعاف نجلهم، ولكن الحقيقة أن الشاب قد توفي بالفعل، هناك كسر في الجمجمة، ومقلة العين بارزة أزيحت من محجرها، والدماء المتساقطة من أنفه ممتزجة بأجزاء من المخ، هذا الشاب ميت جداً إن أردنا الدقة، ولكن حرصاً على حياة الطاقم الطبي يجب ألا يقال الخبر بهذه البساطة.
وجّهت الممرضة الخبيرة الآخرين حولها كيف يجب أن يظهروا منهكين في العمل، أن يخرج أكثر من فرد جرياً لإحضار معدات أو جلوكوز أو أي شيء يبدو طبياً أمام نظر أسرته المتربصة، وأن يدرّجوا الخبر.
"حالته سيئة جداً، ولكن نبذل كل ما في وسعنا".
"حالته تتدهور، سنُجري له محاولات إنعاش".
"قلبه توقف وأعدناه للعمل".
ثم بعد فترة كافية من العمل على الجثمان يُعلن الخبر بحذر "البقاء لله، لقد فعلنا كل ما بوسعنا، ولكن إرادة الله سبقت".
هكذا فقط قد ينجو الطاقم الطبي من الضرب، والمؤسسة الطبية من التحطيم.
هل تظن أن هذه قصة قصيرة أو حكاية تخيلية؟ لا بل هي حكاية حقيقية حدثت منذ عشر سنوات في إحدى الوحدات الطبية، بطلتها قريبتي الطبيبة التي عادت للمنزل شاحبة مرتعشة، بعد هذه المواجهة وهي تحكي بصوت مرتعب عن غضبة العائلة، والاتصال الذي أجراه كبيرهم ليخبرهم بأن فلاناً قد مات، وأنه يجب ألا يبقى قاتله حياً إلى الغد.
هذا الموقف يعرفه كل طبيب أو ممرض عمل يوماً ما في أي مؤسسة طبية، ويتفاقم الوضع في الوحدات الصحية والمستشفيات في الأرياف والصعيد؛ حيث الحمية أشد والغضب أكبر.
مسلسل بالطو يجمل الحقيقة المأساوية
بعد أن شاهدنا جميعاً المسلسل المميز بالطو، صُدم البعض مما عُرض، واعتبروه مبالغة درامية مقبولة، ولكن الواقع يقول إن المسلسل حقاً قد خفف الواقع بشدة.
فكل من عمل في الحقل الطبي، أو لديه من عمل به، يعرف حكايات يشيب لهولها الولدان كما تقول الكتب القديمة.
لست طبيبة في الواقع، ولكن دراستي وعملي لسنوات جعلاني في قلب هذا المجال، كخريجة تكنولوجيا حيوية وهندسة وراثية، عملت كأخصائي تحاليل، وكباحثة في الهندسة الوراثية في مؤسسات صحية. كثيرون من أسرتي وأصدقائي كذلك أطباء وعاملون في المجال الطبي؛ لذا عندما شاهدت المسلسل كان الضحك مختلطاً بالبكاء، فما يراه البعض مبالغة يمكن اعتباره تهويناً وتبسيطاً من حجم مأساة الطب في الواقع، والتي يدفع ثمنها الأطباء والتمريض والمرضى كذلك.
عندما سُرق جهاز المونيتور الصغير
في مستشفى تعليمي كبير وشهير في القاهرة، فوجئ زملاؤنا من الطاقم الطبي باختفاء شاشة مونيتور صغيرة، منذ سنوات كان اعتماد كثير من المستشفيات الحكومية على شاشات صغيرة الحجم، ولكنها فعالة وتنجز المطلوب.
هاج الجميع والكل يتساءل كيف خرج الجهاز من المستشفى، تم توقيع الجزاء والخصم على الطاقم الطبي والإبلاغ عن فقدان الجهاز وسرقته، بعد عدة أيام اتصل قسم الشرطة بالمستشفى ليخبره أن الجهاز قد وجد، وتم ضبط السارق.
هل تخيلت أن أحدهم سرقه بغرض بيعه؟ قد يكون هذا منطقياً بعض الشيء، ولكن الحقيقة أكثر غرابة، فالمريض البسيط الذي أعجبه المونيتور، وأخذ يسأل التمريض عن الأرقام الخاصة بالوظائف الحيوية الظاهرة عليه، اعتقد أنه مفيد له، فقام بتخبئته أسفل الجلابية والعباءة الخاصة به.
وعندما وصل منزله ولم يستطع تشغيله، اتصل بطبيب من منطقة سكنه بعد عدة أيام ليوصله به، الطبيب فهم على الفور الموقف، وتعرف على طبيعة الجهاز التي تصرخ بأنه جهاز حكومي، وقام بإبلاغ الشرطة التي ضبطت الرجل والجهاز، وبالبحث في المحاضر السابقة اكتشفت أنه الجهاز المسروق من المستشفى التعليمي.
أيضاً ليست حكاية مسلية، بل هي واقعة حقيقية حدثت بالفعل أمام أعيننا.
أتركوا الفتاة تموت بهذه البساطة
ليست كل الوقائع مضحكة أو تثير السخرية، ولكن هناك حالات تثير الوجع والرعب كذلك، فللأسف الجهل وعدم التوعية، مع عدم وجود قوانين رادعة لتحمي خاصة الأطفال والنساء من التحكم الطبي لأسرهم، يمكنها أن تفسد الحالة النفسية للطبيب لأسابيع مع شعور حاد بالعجز.
فلن أنسى قصة الفتاة الجميلة البريئة ذات الغمازتين التي دخلت الطوارئ وهي تعاني من انتفاخ حاد في البطن وألم شديد، بالكشف والأشعة يتكشف الآتي: الفتاة وصلت سن البلوغ وقد جاءتها الدورة الشهرية، ولكنها تعاني من حالة شهيرة، حيث نوع خاص من غشاء البكارة لا يحوي ثقوباً هو غشاء مغلق لا يسمح بنزل الدورة الشهرية كما باقي الفتيات، لذا تتجمع الدماء في جسد الفتاة شهراً بعد الآخر لتصيبها بمشاكل صحية وآلام شديدة.
الحل الطبي البسيط هو قيام طبيبة النساء بعمل فتحة صغيرة في الغشاء، كالفتحات الطبيعية الموجودة بالفعل في كل الفتيات. ولكن عند إخبار والد الفتاة رفض بشكل قاطع، معتبراً أن ذلك يعيب ابنته وينتهك شرفها.
حاول الأطباء والطبيبات شرح المسألة علمياً له، حاولوا تبسيطها وإخباره بأن وجود فتحات أمر طبيعي ولدى كل الفتيات البكر الطبيعيات، كلموا رجال دين من القرية ليوضحوا له الأمر.
ولكن الإجابة تعود بالرفض، وضحوا له أن الفتاة ستموت إن استمر هذا الوضع، ليكون الرد القاسي "يبقى أجلها"، موضحاً أن ابنته هكذا ستموت شريفة.
بالطبع يقف الطاقم الطبي هنا عاجزاً، فللأب الولاية الطبية على الفتاة ويملك منعها، فقط يستطيع الطاقم إبلاغ الشرطة بحالة تهديد حياة الفتاة، ولكن قبل أي رد فعل –كالعادة- كانت الأسرة قد غادرت بالقوة، فمن يستطيع منعهم من الرحيل؟ ولم يتم إنقاذ الفتاة بالطبع.
هنا تجد ذاتك كطبيب وظيفته حفظ الحياة وتخفيف الألم عاجزاً عن أداء أي من الوظيفتين وتتساءل لثوانٍ عن جدوى ما يحدث وما تفعل.
لا تحاول إنقاذ أحد.. فلا أحد يريد أن يُنقذ
كأحد أفراد الحق الطبي ستكتشف مع الوقت أن "طريقك مسدود مسدود مسدود" مهما حاولت أن تطبق المثل الشعبي لتكون "كالشاطرة التي تغزل برجل حمار"، فهناك عشرات القيود التي تكبلك؛ القوانين التي لم تحدث، الإمكانيات المادية، الروتين، الجهل وغيرها الكثير.
في مستشفى عام آخر بسيط كانت شكوى وحدة المناظير الحدث الساخر لدى الجميع، فوحدة المناظير لا يوجد بها أي منظار سليم، وهكذا تتضخم يوماً بعد يوم قائمة الانتظار، ويتأخر التشخيص، وبالتأكيد يتأخر العلاج.
المرضى ساخطون ويريدون حلولاً ولا يوجد حل، فالمنظار خرج من الخدمة والحصول على آخر جديد يحتاج لوقت وإجراءات وميزانية، وكلها أمور لن يستطيع أصحاب الحالات الخطيرة انتظارها.
وهكذا تفتق ذهن أحد الأطباء الشباب المتحمسين لفكرة اعتبرها حلاً للمشكلة، هناك أماكن تؤجر المناظير الطبية، لذا يمكن لكل 10 مرضى أن يتشاركوا معاً لتأجير الجهاز ليوم، والأطباء سيقومون بعملهم وفحوصاتهم بشكل كامل.
وافق المرضى بالفعل، وتم عمل الفحوصات وإنهاء قائمة الانتظار، ولكن قبل أن يشعر الطبيب الشاب صاحب الفكرة بالانتشاء لإنقاذ حياة المرضى، فوجئ بتحويله للتحقيق بعد إبلاغ أحد ذوي المرضى عن أن الأطباء يطلبون من المرضى الدفع وإيجار معدات من الخارج.
كاد مستقبل الشاب أن يضيع، وتعرّض لوضع نقطة سوداء في تاريخه، وجزاء وخصم، وهكذا تعلم الدرس هو وكل زملائه، لا تحاول إنقاذ أحد على حساب مستقبلك، لست مسؤولاً عن توفير حلول.
وهكذا ظلت قائمة الانتظار لوحدة المناظير تتضخم يوماً بعد يوم، وببرود ودون تأنيب ضمير يخبر الطبيب المرضى "المنظار معطل".
سيادة الباشا العامل
في كل مؤسسة طبية عامة يعرف الأطباء والتمريض أن العاملين –أغلبهم- هم سادة وبهوات المكان، فالعامل وظيفته الأساسية التي يستيقظ صباحاً من أجلها هي بيع الشاي والقهوة للمنتظرين والمرضى والعاملين، أما مهامه الأساسية التي يقبض راتبه من أجلها فهي أمور ثانوية.
فإن كنت طبيباً صغير السن وحديث الخبرة، فستجد العامل يخبرك بصراحة أن عليك أن تخدم نفسك، فلا تطلب منه أن يحضر لك معدات تحتاجها أو أجهزة يجب العمل عليها، فهذه المهام تعطله عن مصدر رزقه، وهو لن ينصاع "لحتة عيل" مثلك.
كذلك لا تتعجب عندما تجد الطبيب يبحث عن قفاز طبي فلا يجد، ويضطر لشراء القفازات من جيبه الشخصي، بينما الباشا العامل يخبئ مخزون القفازات القليل ليستخدمها هو، فالمخزون لا يكفي كلاكما وهو بالتأكيد أحق منك.
وللأسف كطبيب صغير وشاب لن تجد جه للشكوى تحتاج أن تصبر لسنين وسنين حتى تتحول لطبيب مخضرم وخبرة مِن مَن يوافق العمال على مساعدتهم.
القيود تؤدي للهجرة الجماعية وتغيير المهنة
ستجد مع الوقت كيف أن الطبيب الشاب لا يفكر في شيء إلا الهجرة، البحث عن فرصة في الخارج في الخليج أو أوروبا ليستطيع ممارسة مهنته حقاً، بينما ينجح بعض المتفوقين في هذا، بينما يقنط الآخرون ويقرروا أن يغيروا المهنة، كم كبير ستلاحظه مؤخراً من خريجي كلية الطب الذين لم يستطيعوا المواصلة والذين قرروا عمل Career Shift ليختاروا مهناً أقل درامية ومسؤولية وإنهاكاً وأكثر إدراراً للدخل.
ولهذا تتصاعد يوماً بعد يوم الشكوى من الأطباء من تبقى في الأغلب هم الأقل جودة أو الأكثر طمعاً وأنانية ويمكنهم أن يتحصلوا على دخل كافٍ بطرق متلاعبة، وقلة من المتفوقين ذوي الضمير المنهكين والذين لا يكفون لإقامة نظام طبي ناجح.
وهكذا ندخل في دائرة مغلقة
نظام طبي مريض، يدفع الطبيب للهجرة أو الاستقالة، لا يبقى إلا القلة غير الكافية أو قليلة الكفاءة فيشتكي المريض من سوء الأطباء، فيرحل الأطباء الأفضل لشعورهم بالظلم، وهكذا دواليك، دون أي ضوء في الأفق يعطي أملاً في أن تتغير هذه المعادلة في القريب.
فقط نشاهد عملاً مميزاً كـ"بالطو" لنضحك قليلاً ونبكي أكثر، ثم ننسى ونحاول التأقلم مع الوضع القائم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.