إن العلاقات المصرية السودانية ليست من مدة زمنية قصيرة كما يعتقد البعض، فهذه العلاقة علاقة تفوق التصور، فمنذ آلاف السنين كانت هذه العلاقة موجودة في العصر الحجري القديم والأسفل والأعلى.
فما بين تلك العصور التي شهدت مهد الحضارة الإنسانية وبداية تشكلها بشكلها المعلوم كان هناك نموذج يعطي هذه الإشارات التي نرى علاماتها الآن بشكل واضح في عصرنا الحالي.
إن كانت المفاهيم القديمة لا تعترف أبداً بالحدود الجغرافية التي لا تشكل أي عائق بين الشعوب المحبة لبعضها، وهو ما حدث في تلك العصور القديمة بين ممالك السودان وأقاليم مصر بلد الحضارة والمعبر للعالم الآخر، بحسب مسميات العصور القديمة.
ما بين هنا وهناك تاريخ طويل من التقارب الزمني الذي لا يمكن أن تدركه كتابات أهل الأرض جميعاً، فهنا وهناك نشأت حضارة وادي النيل العريقة والقديمة، هذه الحضارة التي حيرت كتاب التاريخ وأخذوا يبحثون وينقبون عن خفاياها العظيمة وأسرارها التي مازلنا نجهل عنها الكثير.
لقد تحدث الكثير من الباحثين عن أسرار هذه الحضارة العظيمة التي بدأت في وادي النيل، ومنهم "هنري برستد" المؤرخ الأمريكي المعروف، والذي كتب انتصار الحضارة وأفرز فيه حيزاً كبيراً لحضارة وادي النيل، حيث استطاع لفت الأنظار إلى دراسة علم المصريات والبحث في أسرار الحضارة المصرية، ومزج كل هذه الدراسات أيضاً للوصول إلى دراسة تاريخ وادي النيل ودراسة الممالك النوبية التي قامت في جنوب الوادي.
كان للممالك النوبية ارتباط وثيق وعلاقات متينة بالأقاليم المصرية، وجمع كل هذا نهر النيل العظيم الذي يهب الحياة باستمرار لمصر والسودان، ولذلك فإن هذا الارتباط لم يكن ارتباط العصر الحديث، بل كان ارتباطاً من آلاف السنين في عصور نشأة الحضارة الإنسانية التي بينها "برستد" وغيره من المؤرخين.
فقد كان العديد من المؤرخين يربطون هذه الحضارة وكأنها حضارة واحدة في بلدين مختلفين، هكذا كنا نحن كسودانيين وكمصريين منذ ملايين السنين قبل رابط الدم والأخوة الذي عززته الآن وحدة المصير والهدف المشترك والدين واللغة.
الرحالة "حرخوف"
في رحلة عنوانها الأبرز ملامح وادي النيل القديمة، وتلك الرحلات الشهيرة التي قام بها "حرخوف" التي وصف فيها بلاد النوبة بتفاصيلها المدهشة التي رآها، حيث دوّن الرحالة "حرخوف" كل ما رآه في بلاد النوبة وإفريقيا كرحالة مصري جاب إفريقيا منذ وقت مبكر وهو طفل، وأكملها وهو شاب، ووصل حتى الصحراء الغربية.
"الرحالة حرخوف" كان موجوداً في عصر من الأسرة السادسة الفرعونية، وحفر اسمه في التاريخ الإنساني، حيث كان من أوائل المصريين الذين اكتشفوا عوالم إفريقيا المجهولة، وكانت عنده معرفة كبيرة بنهر النيل، بالإضافة إلى أنه كان يسير وفق طريقة علمية في الرحلات الجغرافية.
"حرخوف" ربما يكون أول طفل مصري يقوم برحلة مع والده نحو إفريقيا، ثم قام بعدها بعدة رحلات في شبابه نحو إفريقيا، منها رحلة للصحراء الغربية، وقد دفن في "إلفنتين" بأسوان بصعيد مصر، حيث اهتم اهتماماً خاصاً بالنوبة، وانطلق من خلالها نحو إفريقيا، وربما يكون قد وصل إلى أواسط إفريقيا، حيث يؤكد المؤرخون أن "حرخوف" امتاز بطريقة علمية في الرحلات، حيث كان لا يعود من ذات الطريق الذي سلكه في الذهاب، فالمغامرة السهلة لم تكن مشوقة له، لذلك كان يسلك طرقاً عدة، رغم مشقة الطرق ووعورتها واختلاف القبائل، وكثرة الحيوانات المفترسة بها.
دوّن هذا الرجل كل ما رآه في النوبة، فكانت الرحلة بسيطة، حيث لا حدود تحدنا ولا تقف أي فواصل بين مصر والسودان، كانت رحلة "حرخوف" مليئة بالتشويق والمقارنات. تؤرَّخ هذه الرحلة في عهد "مرن رع" من سنة 2247 إلى 2241 قبل الميلاد.
لقد سجل حرخوف تفاصيل رحلته في المقبرة التي دفن فيها في أسوان؛ كتب: أرسلني جلالة الملك "مرن آت رع" كما أرسل والدي إلى تلك البلاد لاكتشاف الطريق الذي تؤدي إلى البلاد الأجنبية، وقد قمت بهذا العمل في 6 أشهر فقط، وقد عدت بكل أنواع الهدايا من هذه البلاد. وهذا أيضاً يؤكد العلاقات الراسخة بين مصر وممالك بلاد النوبة، ويقصد بالبلاد الأجنبية في رسالته معرفة طرق الوصول إلى الدول الإفريقية.
القواسم المشتركة
إن العلاقات المصرية السودانية امتدت أيضاً في عصور مملكة كوش ومملكة مروي السودانية، فالعلاقات قديمة وراسخة منذ أزمان طويلة وتتطور بشكل كبير عبر السنين.
كما كان السودانيون في رحلتهم لمناهضة المستعمر الأجنبي في خمسينيات القرن الماضي يأخذون من مدارس النضال المصرية في الأسلوب والتكتيك وتبادل الرسائل، وكانت وحدة وادي النيل ضد المستعمر علامة في تاريخ النضال.
السودانيون نهلوا من الثقافة المصرية ومدارس الأزهر الشريف، حيث كانت البعثات العلمية في حركة متواصلة ما بين الخرطوم والقاهرة، وفي كل ولايات السودان يوجد خريجو الأزهر الشريف منارة الإسلام، كما أن الثقافة المصرية متجذرة بقوة في المجتمع السوداني، هذا الأمر طبيعي للتقارب الجغرافي والفوارق المعدومة.
توجد قواسم مشتركة في كل شيء، ومع أجيال متعاقبة تعرف جيداً هذه المعاني التي نحتاج بشدة لإيصالها لجيل اليوم لنخبرهم بهذا الطريق الطويل الذي بدأ قبل عصور طويلة وتدرّج لنصل إلى ما نحن عليه اليوم.
فلم يتغير شيء طوال هذه السنوات، ومازلنا جسداً واحداً وبلدين نتنفس في محيط واحد ويجمعنا مصير مشترك وتحديات جسام، نريد لهذه المعاني العميقة أن تصل لكل الأجيال، وحبنا لوادي النيل أن تكون هذه المعاني واضحة ندركها جميعاً دون مزايدات، دون أن نستمع لهواجس وظنون لم ولن تكون موجودة، فلا نريد تجاهل هذا التاريخ الضارب في القدم.
هذه المعاني الاجتماعية التي نبتت بين السودان ومصر وذابت فيها الفوارق وانفتحت الحدود، فلا أحد يمكنه أن يقول هذان بلدان مختلفان، فأكثر دولتين في العالم منفتحتين على بعضهما هما السودان ومصر، هذه النظرة نظرة عميقة سوف تظل إلى الأبد رغم محاولات التشويه هنا وهناك، ستظل هذه العلاقة علماً في أرض القوس السودان، كما ستظل هذه العلاقة علماً في أرض أبي الهول في مصر التاريخ، وكلنا أمام تحدي الانتصار والعبور إلى الأمام دون التفرقة بين البلدين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.