من الأمراض الاجتماعية القاتلة لروح العمل والمبادرة، والتي تنمي روح التواكل والسلبية المميتة ما انتشر بين الناس وأصبح من معتقداتهم الراسخة، لجوؤهم للتفسير الغيبي لأحداث ووقائع قائمة في عالم الأسباب، أو ما يعرف بعالم الشهادة.
تزداد حدة هذا الهروب إلى الغيب في حالة الكوارث والأزمات العامة، أو أي فشل أو عجز فردي أو جماعي، و أزعجني أكثر هذا الأسلوب في التعليق مؤخراً على حالة الحيف والجفاف التي أصابت بلدنا الجزائر، والمنطقة عموماً، في السنوات الثلاث الأخيرة على الأقل، وكذلك تفسير الزلزال المدمر الذي أصاب إخواننا في سوريا وتركيا.
توحي كل المؤشرات والمعطيات بأن شبح الجفاف بات يخيم على الجزائر، وفي ظل استمرار "شح" السماء، يزداد التخوف من أزمات اجتماعية مرتبطة بقلة المواد الاستهلاكية، بخاصة الزراعية منها، وارتفاع الأسعار، وتذبذب التزود بمياه الشرب، وهو الوضع الذي يبدو أنه سيزيد من متاعب الحكومة.
مع حالة الجفاف التي ضربت المناطق الريفية بالجزائر، وتفاقمت معها ندرة المياه، أطل علينا البعض وتصدروا المشهد بتفسيراتهم التي ينسبونها إلى الدين بجهل ودون ورع ولا تقوى، وازدهرت بضاعتهم المغشوشة أكثر مع مصيبة الزلزال الأخير، فأينما تولّ وجهك ومهما يكن مستوى الذي تحدثه علماً أو استقامة ما إن تفتح معه موضوع الجفاف أو الزلزال، والكثير منهم يبادر بالحديث عنهما لتصدر الجلسة حتى يسارع لإسماعك نفس الأسطوانة، التي ملخصها:
"هذا نتاج خطايانا وما نرتكبه من مفاسد وبُعدنا عن الطريق القويم، وانتشار الرذائل وامتنعنا عن الزكاة.. إلخ"، ثم يختم خطبته القطعية بخلاصة لا يُقدر خطورتها معلناً بتلذذ في الغالب: "إن الله غاضب علينا"!، والغريب تساهل الناس في تناقل مثل هذه الأكاذيب والتسليم بها دون مراجعة، ولا تمحيص على خطورتها على عدة مستويات أهمها:
1- التألي على الله: فهذا المتحدث باسمه تعالى والمطلع على غيبه والمتجرئ على الله بإعلانه أن الله غاضب علينا، نسأله ببراءة: هل أوحي إليه؟! هل يعي خطورة ما يقول؟ ألا يعلم أن الأقوام التي غضب الله عليها قد أبادها؟! وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن ربه منحه خاصية "أن لا يُهلِك أمته بعذاب عام".
٢- لو سلمنا بهذا المنطق العليل في التفسير نقول لهؤلاء المتألهين إن معدلات التساقط كبيرة جداً في الغرب فهل نفهم من هذا أن الله راضٍ عنهم؟! ومنه نستنتج أن انتشار المفاسد في الغرب أقل!
٣- يا من تتلذذ بمعاقبة الله للناس وتسارع إلى إعلانها، بمنطقك العليل هذا ألا يعني التساقط الأخير للأمطار والثلوج وامتلاء السدود والأنهار أن الله رضي عنا! فلمَ لا تسارع لإعلان هذا في مجالسك التي لا تمل من تصدرها… أم نفسيتك لا تسمح لك بذلك؟!
الخطاب القدري
اعتاد الناس عند إساءة العمل أو وسوء التقدير والتصرف بالتغطية على أخطائهم بالتفسير الغيبي، فيبرر فشله في الغالب بعين حسود أصابته، وإن ناقشته يتحول إلى واعظ متمكِّن حاذق بعلوم الشرع ويسارع لقطع الطريق بتذكيرك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "العين حق" -متفق عليه- وموضوع العين الحسود من المواضيع الأكثر انتشاراً بين الناس بمفهومها المعوج والكثير من الأعمال الفاشلة تعلق عليها، وهنا أحببت أن أشير إلى نقطتين أساسيتين:
- حديث العين والحسد يدرج في الخطاب القدري، وهو خطاب حول الغيبيات، فمع إيماننا أن العين حق هذا لا يعني أنه يمكننا أن نفسر جازمين أن كل ما يصيبنا هي عين حسود، لأننا لا نملك مؤشرات دقيقة دالة على ذلك من جهة، ومن جهة ثانية لسنا مطالبين بالتوقف عندها.
- من أسباب عجزنا وتأخرنا تنشئة مجتمعنا على التفسير بعالم الغيب الذي اختصه الله بعلمه بدلاً من تنشئة الناس على تحمل مسؤولياتهم والاجتهاد لتحديد أسباب الفشل، ومن ثمَّ تصويب العمل.
هنا أجد محاولة العالم الأندلسي "عباس بن فرناس" الطيران هي أحسن مثال لما أعنيه فبدلاً من الاهتمام بتحديد سبب أو أسباب فشل تجربته وتصحيحها، انخرط المتحذلقون حينها في جدال غيبي لا ينبني عنه أي عمل وهو مناقشة لو مات أثناء التجربة هل كان سيدخل الجنة في سبيل العلم أم النار "انتحر، ورمى نفسه إلى التهلكة"؟!، متناسين أن تصنيف الناس ليس من مهامهم، وأن من يُدخل الجنة أو النار هو الله سبحانه وتعالى.
دوافع وأسباب
أصل هذه المغالطات كلها الخلط بقصد أو بغير قصد بين الخطابين الشرعي والقدري، فإذا كان الخطاب الشرعي "يتضمن أمراً ونهياً وهو يتوجه إلى الضمير الخلقي لدى المؤمن وينير له حياته العملية"، فإن الخطاب القدري "يدخل في نطاق الغيبيات، ولا يَنبني عليه فعل أو ترك بل إيمان وتصديق"، والناس يلجؤون إلى التفسير القدري بدوافع مختلفة ومتداخلة أهمها:
الجهل: تزداد خطورة التفسير الغيبي وتصعب معالجة آثاره عندما تحقن ضلالاته مغلفة باسم الدين من قِبل بعض الجهلة المحسوبين على الوعظ والإرشاد والحاملين ظلماً لرتبة عالم أو داعية، فكثيراً ما يلجأ هذا النوع من المُدَّعين للتفسير الغيبي فيحكمون على الناس بالجنة أو النار، أو على عباداتهم بالقبول أو الرفض، ومنهم حتى من يحدد آخر الزمن ووقت القيامة، ومنهم من يحدد بالاسم "مجدد دين الأمة" لهذا القرن، وأخطر ترهاتهم تحديد الفرقة الناجية من الناس وغلق الباب عن باقي المسلمين، أو تقديمهم للفقر والضعف كميزة نرضى بها إن لم نسعَ إليها؛ لأنها تدخل الجنة!
العامل النفسي: ينشأ الفرد المقهور منا بنفسية مهتزة فاقدة للثقة حاملاً لمفاهيم ضالة مضلة أشدها تأثيراً فكرة "أن ليس من حقه الخطأ"، فالذي يُسَلَّط عليه العقاب مند سنواته الأولى بسبب أخطاء بسيطة وطبيعية بالنسبة لسنه لا يدرك أو يعي سببه، ثم تؤكد المدرسة على ذلك بأن يعاقبه المعلم عند أي حركة في حجرة الدرس أو خطأ في الإجابة أثناءه، يضطر لحماية نفسه وتجنب العقاب باللجوء إلى التفسير الغيبي، أنا ما أصابني عين لتبرير أخطائه.
ومع تقدم العمر، يتطور معه هذا المنطق وتسوء حالته، حتى يصل إلى الراحة والاطمئنان النفسي، وعدم الشعور بالمسؤولية برغم ما يقترفه من كوارث، ومما يشتهر عند الناس تفسير السائق للحادث المميت الذي يتسبب فيه بالمكتوب فقط، ولا يفسره بأنه بسبب أخطائه.
إثني أو فئوي: كثيراً ما تلجأ جماعة أو فئة الادعاء بخصائص خارج المألوف بهدف دعم مكانتها ضمن مجال تنافسها، وكسب أنصار وداعمين جدد، فمنهم من أكد بما يشبه الغيب أن قومه وُجدوا قبل آدم -عليه السلام-، لإثبات أنه أقدم صاحب الأقدم والأجدر، ومنهم من يدّعون أن زعيمهم هو مجدد القرن الذي بشر به النبي عليه الصلاة والسلام.
سياسي: في محاولة منهم لإبقاء الشعوب في ذلها وهوانها مستسلمة للظلم والطغيان يوظف الظلمة الغيب لتثبيت أرجلهم معتمدين على المجرمين الفسقة الذين وصفهم عليه الصلاة والسلام بـ"عليم اللسان يجادل بالقرآن"، فمنهم من ادعى أن حكمهم من قدر الله، كما وجد المحتل الغربي من يدعمه كبعض الدجالين الذين حاولوا قتل روح مقاومة الاحتلال مدعين دخوله في قدر الله فلا تجوز محاربتهم، وأن إخراجه من البلاد سيكون بقدر الله كذلك!
لنصحح فكرنا
من المهم أن نشير إلى أن واجبنا الأساسي هو عمارة الأرض بإقامة مجتمع الحق والعدل ولن يكون ذلك ممكناً إن لم ندرك أنه حين يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستشهد اقتتالاً وفتناً مريرة، فهذا خطاب قدري نؤمن بأنه سيقع وفقط ولا نتوقف عنده فلا نبدد وقتنا وجهدنا في محاولة إسقاطه على الواقع بتحديد زمنه أو أطرافه.
في المقابل، يجب أن لا ننسى أن الخطاب الشرعي يطالبنا بأكثر من مجرد الإيمان بوقوعها، بل يأمرنا بالسعي للإصلاح بين المؤمنين إذا اقتتلوا والوقوف في وجه الباغي والأخذ على يد الظالم.
فإذا أنشأنا أبناءنا على هذا الفكر الإيجابي الفعال، وهو في تقديري الفكر الذي تربى عليها جيل الصحابة سننجز واجباتنا في أسرع وقت وبأقل التكاليف، فيكفي أن الصحابة قد أقاموا دولتهم وهزموا أكبر قوتين حينها في حوالي 30 سنة، ولا بأس هنا أن نشير إلى ما نقدر أنه من أخطر المعتقدات المنحرفة القاتلة لفاعلية المجتمع وهي:
1- لست إلهاً لتحكم على الناس بالجنة أو النار، وعلى عبادتهم بالقبول أو الرفض احرص على نشر العلم والدعاء لك وللناس بالتثبيت.
٢- ادعاؤك أنك من يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن مدرستك الفقهية هي الناجية الوحيدة مغالطة هادمة لمقاييس العمل للفوز بالجنة ومضللة لطاقة الأمة الحية وشبابها بأن يعتقد الواحد منهم أن نجاته مضمونة بالانظمام لهذه المجموعة ويكفي.
٣- إحاطة زعيم طائفة أو تنظيم أو حتى فقاعة إعلامية ما بهالة من التقديس وإلباسه لباس مجدد القرن من الحيل القديمة التي يستعملها المتنافسون ليسهل تطويع جموع الأمة، وهذا ما يفسر وجود عدد غير منتهٍ من المجددين في القرن الواحد.
٤-العين والحسد وما يشبههما ليس محطة للتوقف، ويكفي لمعالجتها بما ثبت عن النبي ويعرف بالرقية الشرعية والتي ليست تخصصاً لأحدهم دون غيره.
ختاماً.. نؤكد أننا بشر فُطرنا على الفجور والتقوى، أقامنا الله للخلافة في عالم الأسباب، واختص نفسه بعلم الغيب، ولم يُطلع عليه أحداً من خلقه، فلنعش في عالمنا بالقواعد التي ارتضاها لنا خالقنا ولا ننشغل أو نفر إلى بما ليس بالإمكان إدراكه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.