لا شك أن لكل من الظواهر الطبيعية والاجتماعية من حيث دراستها خصوصية في المنهجية العلمية التي تتطلبها الظاهرة، أو الفرضيات التي تُبنى عليها، كما أن هناك ظواهر من حيث الأسس العلمية تتشابه مع غيرها، فلو طرحنا نظرية توازن القوى فإنه للوهلة الأولى بيرز لدينا مفهوم سياسي له بُعد داخلي وآخر له تأثير في العلاقات الدولية، كما أنه أيضاً له مبحث فيزيائي، يهتم بقانون الجذب والكتلة، والفعل وردة الفعل، وعلى هذا النحو يرى العالم الفيزيائي نيوتن، أن ملخص قانون نيوتن الثالث المبني على قاعدة "لكل فعل رد فعل مساوٍ له في الشدة ويعاكسه في الاتجاه".
والذي جاء بنتائج منها: لا توجد قوة منفردة في الكون، وأن الأجسام تتحرك بفعل تأثير القوى الخارجية عليها.
ومن هذا المنطلق لو أردنا إسقاط هذا المفهوم الفيزيائي الميكانيكي على المفهوم الثاني السياسي، فإن توازن القوى من حيث إنها نظرية ترسخت في سلوك العلاقات الدولية منذ معاهدة "فيستفاليا" عام 1648، التي أنهت حرب الثلاثين عاماً، وأنهكت الأوربيين إلى وقتنا الحاضر، الذي ارتقت فيه تلك النظرية وصارت تتجسد في مبدأ يستقر معه المجتمع الدولي، له مدلول مفاهيمي يحاكي التفسير الفيزيائي السابق، إذ يشير إلى أن الدول قد تؤمّن بقاءَها عن طريق وقف أي دولة عن الحصول على القوة العسكرية الكافية للسيطرة على الدولة الثانية، أي أن ردة الفعل جاءت لتوقف فعل التعدي أو التهديد باستخدام القوة لفرض أمر واقع على تلك الدولة.
استدراك فوكوياما وطرح القرضاوي
وعلى هذا النحو من الفكرة فإنه بات من الضروري ألا يكون للعالم قطب واحد، وليس من طبيعة الأشياء أن يبقى يسير وفق منطق الأقوى والأوحد، ويتطلع العالم إلى الاستقرار والأمن إلى ما لا نهاية، إنها مغالطة حاول البعض أن يجد لها تفسيراً ومبرراً علمياً، كالتي طرحها المفكر الياباني- الأمريكي فوكوياما عام 1992، وأراد أن يقنع العالم بنهاية التاريخ والإنسان الأخير الذي يعتنق الليبرالية، غير أنه استدرك لاحقاً وعلم أن العالم لن ينتهي على قواعد القوة الوحيدة في العالم.
ومن المستقر عليه أن الكون له سنن ومسلمات، تجعله مضبوطاً حتى يبقى موجوداً ومستمراً، ومن ذلك سنة التدافع والتنافس، التي هي في جوهرها صون للحق، وحماية له، فلولا الباطل ما ظهرت قيمة الحق، كما أنه لولا التهديد بالقوة ما كان للظلم والطغيان نهاية وحدود.
ولذلك سُنن الكون جاءت مؤطرة تأطيراً عاماً، ولم يختص بها زمان دون غيره، ولا فئة دون أخرى، وإنما هي أساس لانسجام الكون واستمراره، فمن تلقّفها في لحظات عملها واستدرك ما فاته من مواكبتها كان له أثر في ذلك التوازن من القوى، وأما من لم يُبصرها ولم يتلقف أثرها فحتماً سيكون وقوداً لإحدى تلك القوى.
ولذلك جاء في الأثر أن "سنن الله لا تحابي أحداً"، وقد أشار الشيخ القرضاوي -رحمه الله- لهذا المعنى بالقول "هذا الوجود ليس سائباً، هذا الكون منضبط بسنن وقوانين إلهية لا تلين لأحد، ولا تحابي أحداً، مَن راعاها راعته، ومَن حفظها حفظته، ومَن ضيَّعها ضيعته وداست عليه ولم تبالِ به، هذه السنن، شبكة الأسباب والمسبَّبَات؛ من جد وجد، ومن زرع حصد، مسلماً كان أو كافراً، براً كان أو فاجراً، لا يمكن أن تعطي الأرض ثمرتها لمسلم تركها ولم يهتم بها".
وفي هذا السياق؛ أي سياق توازن القوى، نجد القرآن الكريم جاء متضمناً حثّ المسلمين على صناعة القوة؛ حيث قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ" [الأنفال:60]، هذه الآية نزلت حينما انتقل المسلمون من مكة المكرمة (دار الدعوة)، إلى المدينة المنورة (مركز الدولة الإسلامية)، حينما بدأت المفاهيم تتغير، وأنظار الأمم الأخرى ترصد التحولات في منطقة العرب، وأن المسلمين أمام مرحلة جديدة من الإعداد والتمكين وصناعة القوة، التي تكافئ وجودهم، وتحمي نفوذهم، وفرض أجندتهم بمفهومنا الحديث.
وقد عُني هذا المفهوم بأولوية ضمن الأولويات التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه، وصارت شريعة لنا ومنهاجاً؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثةً الجنةَ: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به، وقال ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا، كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق".
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله وهو على المنبر يقول: "وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ. ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"، [رواه مسلم في الإمارة]، والرمي هنا مفهوم واسع، وله مدلوله حسب كل زمان ومكان، فيتحرك المسلم وفق ما يقتضيه الحال والمكان.
التحولات الكبرى
وحتى لا أذهب في غير السياق الذي أريد الوصول إليه، أردت طرح فكرة أن توازن القوى كمبدأ في العلاقات الدولية ليس حكراً على أمة بعينها، ولا زمان دون غيره.
وإننا كأمة عربية مسلمة لنا مرتكزات لهذا المفهوم، والشريعة الإسلامية جاءت لتُبين أن سنن الكون هي المحددة في مسارات تحول القوة والنفوذ.
ذلك أن العالم في حركة مستمرة تنتقل معها مصادر القوة والنفوذ، وتتغير من خلالها مفاهيم القوة، وأن تحقيق توازن القوى يمر عبر تنازُع وتصادم أطرافه المؤثرة بالفعل وردة الفعل، ثم يستقر ويثبت حقبة من الزمن.
ووفق السنن الكونية ذاتها، تتراجع حضارات وتسقط ممالك ودول، وتبرز أخرى، إنها ديناميكية العالم وطبيعته، المتحرك على قواعد التدافُع والرغبة البشرية في بسط القوة والنفوذ، التي تقابلها القيم الإنسانية من العدالة والحرية والكرامة الإنسانية، التي تتبناها طائفة من البشر ترى نفسَها على الحق، ومن منطلقات مختلفة أيديولوجية عرقية… إلخ.
هذه المفاهيم، وأخص بالذكر هنا مفاهيم القوة، وأسباب التمكين منها، فالقوة من حيث التعريف هي القدرة في التأثير على الغير؛ أي بمعنى القدرة على حمل الآخرين على التصرف بالطريقة التي تضيف لمصالح صاحب القوة، وهي امتلاك صلاحية اتخاذ القرار وتوجيه الغير للقبول به.
هذا المفهوم قد يشمل القوة الخشنة، وقد يأخذ مفهوم القوة الناعمة والمرنة، وأيّ من البعدين هو جوهر وأسس العلاقات الدولية، ولكل منهما تأثيره البالغ في توجيه قرارات المجتمع الدولي، وحتى الداخلي أو الإقليمي.
القوة الاقتصادية كمثال لها تأثيرها من حيث بسط النفوذ الناعم، كما أنها سلاح من حيث كونها عقوبة، والقوة الخشنة العسكرية لطالما كانت الضابطة في مسار الأمم والدول، وتشكل البوصلة في تحديد أقطاب القوة العالمية والعلاقات الدولية، فهي أداة الحروب والدمار والانتهاكات الواسعة من جهة، وهي أيضاً مصدر استقرار المجتمع الدولي من جهة ثانية، إذا ما كانت مدخلاً في صناعة توازن القوى العالمية.
ومن خلال الوضع اليوم، والتحولات الكبرى الحاصلة، والتي من مظاهرها الحرب الأوكرانية الروسية، إنما هي لحظة من لحظات الاستئناف في تاريخ الإنسانية لإعادة تشكيل خريطة العالم، من منطلق مبدأ توازن القوى، وتعدد الأقطاب، وتشكل محاور على قاعدة توازن القوى، وبذلك فإننا نلاحظ جلياً تراجع الأحادية القطبية الأمريكية، التي كانت مهيمنةً، واستبدالها بقوى صاعدة لم تكتمل الظهور بعد، وهي نتيجة حتمية لسنة كونية، حتى تحفظ للبشرية وجودها واستمرارها، ثم إن ذلك لن يستوعب المتخلف عن مسيرة التشكل الجديدة، وإنما سيكون أداة طيّعة في يد إحدى القوى التي برزت للوجود، واستقر لها قرار.. فهل تحجز الأمة لها مكاناً في المشهد الجديد أو تحاول؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.