في كتابها "أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر" المنشور سنة 1963، والمبني على تغطيتها في القدس، بين 1961ـ1962 (لصالح صحيفة النيويوركر)، لمحاكمة أدولف أيخمان، المسؤول النازي المتهم بارتكاب جرائم حرب ضمن مخطط "الحل النهائي" لإبادة يهود أوروبا، ابتكرت الفيلسوفة الألمانيةـ الأمريكية حنة أرندت مفهوماً فلسفياً سمّته "تفاهة الشر"، وذلك في محاولة منها لتحليل دوافع أيخمان فيما ارتكبه من جرائم.
ترى أرندت أنّ أيخمان لم يكن وحشاً سادياً منحرفاً غير عادي، بل مجرد موظف بيروقراطي عادي جداً قام بما قام به من جرائم، اجتهاداً منه في وظيفته، وفي سبيل تعزيز مساره المهني ضمن الهرمية النازية.
ربما لا يكون الشر تافهاً، فقد أثار هذا المفهوم الفلسفي في كتاب أرندت نقاشات وإدانات واستنكارات واسعة، وهو ما زال موضع خلاف وجدل حتى يومنا هذا، ولكن الأكيد أنه بالمقابل يمكن أن تحتوي التفاهة على شر كبير، وربما على شر مطلق، وهو ما يُلاحَظ في لبنان، على الأقل منذ الانهيار الذي بدأ في خريف 2019.
المقصود هنا بالتفاهة هي التفاهة السياسية، التي يغرق فيها، وتتلهى بها مختلف الأطراف اللبنانية، التي ليست إطلاقاً على قدر المسؤولية أمام الأزمة المستفحلة، وانعدام الجدية لديها في معالجة مسببات هذه الأزمة الاقتصاديةـ الماليةـ النقدية الكارثية وذيولها.
تحولت الأوساط السياسية على اختلافها إلى محللي بوكر في كازينو مفلس، يسخّرون كل عصفهم الفكري للنقاش حول ما إذا كان ترشيح شخص (سليمان فرنجية) لرئاسة الجمهورية "بلفة"، (مناورة في لعبة تيكساس هولديم ليميت، متلهّين بمحاولة تفكيك الرسائل المبطنة في تغريدات سفير) مفوضٍ سامٍ لدولة خليجية، ربما يطمح لجمع تغريداته يوماً ما في ديوان شعري يسميه "ليد زيبلين" في بلاد الأرز، تيمنا بفرقة موسيقى الروك، التي اشتهرت في السبعينيات، والتي يقال إنّ بعض أغانيها كان يحتوي على رسائل مبطنة، تستهدف لاوعي المستمع، ويجتهدون في محاولة قراءة انعكاسات "ضربة المعلم"- أي كما سمّى الزعيم وليد جنبلاط الاتفاق السعودي الإيراني الذي جرى مؤخراً برعاية الصين- على بلدهم، أو قراءة في بيان لم يصدر عن اجتماع خماسي في باريس حول لبنان.
كل هذا في حين أنّ سعر صرف الدولار مقابل الليرة تخطى في السوق السوداء قيمة أكبر قصاصة ورقية من العملة اللبنانية (فئة المئة ألف ليرة)، ما يترافق مع ارتفاع مستمر في سعر منصة صيرفة، ما ينعكس تدريجياً زيادة كبيرة في رسوم فواتير الخدمات العامة، التي تحتسب على سعر صيرفة، بالإضافة إلى أسعار المحروقات، وارتفاع جنوني بالأسعار عموماً، لا سيما أيضاً بعد دولرة أسعار السلع في السوبرماركت، حتى أضحت مثلاً كثير من فتيات هذا البلد ونسائه غير قادرات- وليس فقط في يومهن العالمي- أن يجدن ما يشترين به فوطاً صحية، وأصبح كثير من اللبنانيين يتهيّبون من قرب بدء شهر رمضان المعظم، بسبب الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية.
أما المصارف فما زالت على وقاحتها، من إضراب لإضراب تفرضه جمعيتها، محاولة ترويض القضاء والهروب من تحمل الجزء المتعلق بها من المسؤولية عن ودائع المواطنين، في ظل سلطات دستورية متخلية تماماً، منذ ثلاث سنوات، عن دورها الأساسي في سَن قوانين لمواكبة الانهيار. هذا في حين أنّ القطاع المصرفي الموازي، المتمثل بمؤسسة "القرض الحسن" التابعة لحزب اللّه، قد بدأ بالخروج من مناطق نفوذ حزب اللّه، وأخذ يفتتح فروعاً جديدة له في مختلف المناطق اللبنانية.
أما المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ففي حالة موت سريري، وخطة التعافي التي شنفت الحكومة ورئيسها آذان اللبنانيين بها… في خبر كان، ناهيك عن مماحكات سياسيةـ طائفية بذرائع دستورية حول كل شيء، من انعقاد مجلس وزراء حكومة تصريف الأعمال، إلى عقد جلسات تشريعية لمجلس النواب، في غياب رئيس جمهورية يتعذر انتخابه بسبب تعطيل جلسات الانتخاب والتهديد بالتعطيل المضاد.
أما بالنسبة لرئيس الحكومة فكل ما تقدم لا يبرِّر بنظره "مصلحة وطنية"، ولا يستدعي إعلان حالة طوارئ تشريعية تنفيذية للمعالجة، ولكن إذا تم المساس قضائياً بأحد المصارف فذريعة "المصلحة الوطنية" حاضرة، لتبرير ضرب مبدأ فصل السلطات وكفّ يد قاضية (لا تخلو تصرفاتها من الكثير من الشعبوية الفاقعة) عن الملف.
أما القضاء، وهو المؤسسة الوحيدة التي بقيت متماسكة في خضمّ الحرب الأهلية فحدّث ولا حرج، إذ انقسم على نفسه اليوم، خصوصاً في ملف انفجار مرفأ بيروت، وذلك في سلسلة من الشعبويات القضائية المتقابلة، وتراكمية أخطاء قانونية يندى لها الجبين، في حين أنّ أهالي الضحايا ما زالوا ينتظرون تبيان الحقيقة، وفي حين أنّ مليارديراً هندياً (غوتام أداني) استحوذ، من خلال صفقة قيمتها 1.2 مليار دولار، على مرفأ حيفا في دولة الاحتلال الإسرائيلي، ومن شأن عملية الاستحواذ هذه أن تسرّع اندماج دولة الاحتلال في الشرق الأوسط، وأن تلغي بذلك دور مرفأ بيروت، وما كان تبقّى من أهمية له في المنطقة.
وفي سياق متصل بإسرائيل أيضاً، لعل تفاهة السلطة اللبنانية تتجلى بأبهى حللها فيما يتعلق باتفاق ترسيم الحدود البحرية مع دولة الاحتلال، إذ وافقت السلطة اللبنانية بملء إرادتها على معاهدة دولية مع إسرائيل (في القانون الدولي، العبرة في مضمون الاتفاق وليس في شكله) تنازلت بموجبها- من بين ما تنازلت عنه- عن حقل كاريش، الذي سرعان ما بدأت اسرائيل استخراج الغاز منه بعد هذا الاتفاق، ثم بدأت هذه السلطة اللبنانية تتظلم من فخ وهمي نصب لها، عندما تم تسجيل هذا الاتفاق كمعاهدة دولية في الأمم المتحدة، مع ما يتضمن ذلك من اعتراف بدولة إسرائيل!
وفي خضم كل هذه الفوضى، ما زال التغييريون، الذين علق جزء من اللبنانيين الآمال عليهم، يعتقدون أن السبيل إلى التغيير هو بعض "المروجات" الاستعراضية في مجلس النواب، الذي يبدو أن دخول ندوته كان جل همهم.
أما اللبنانيون فيعيشون كل يوم بيومه، محاولين التغلب على وسواس الانتحار، قلقين مما يحمله الغد، خائفين من تردي الأوضاع الأمنية مع ازدياد معدلات الجريمة والسلاح المتفلت والرصاص الطائش، منتظرين أن يأتي الفرج من الخارج، وهو لن يأتي قبل إجراء إصلاحات جذرية، لاجئين إلى أساطير "العصر الذهبي" وذكريات "الزمن الجميل" هرباً من واقعهم المأساوي.
بالمحصلة، لو أراد اليوم الكاتبان المسرحيان، الأيرلندي صاموئيل بيكيت، أو الروماني يوجين يونيسكو، كتابة عمل من المسرح العبثي، لما وجدا أفضل من نسخ الواقع اللبناني كما هو، دون أدنى تعديل.
ولو قامت حنه أرندت اليوم بإعداد تقرير عن تغطيتها للواقع السياسي في لبنان، لعنونته على الأرجح: "الانهيار في بيروت: تقرير عن شر التفاهة".
أعان اللّه لبنان وشعبه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.