أصدرت الدائرة التمهيدية الثانية، في المحكمة الجنائية الدولية ومقرها مدينة لاهاي الهولندية، مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي القوي فلاديمير بوتين، تمهيداً لمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب ذات علاقة بالترحيل غير القانوني للأطفال، والنقل غير القانوني للأطفال من داخل الأراضي الأوكرانية إلى الأراضي الروسية، إضافة إلى مذكرة أخرى بحق المفوضة الرئاسية لحقوق الطفل في الفيدرالية الروسية.
والسؤال المطروح في هذا السياق: هل يعد القرار المذكور بداية لإجراءات قضائية جنائية دولية جدية بحق الرئيس الروسي، أم أنه لا يعدو كونه وسيلة ضغط على الرئيس الروسي، لوقف الحرب التي تدور رحاها في أوكرانيا منذ عام أو يزيد، خاصةً في ظل تأثيرات تلك الحرب على القارة العجوز وعلى الولايات المتحدة أيضاً، ما يشمل ارتفاع أسعار الطاقة، خصوصاً مع اقتراب فصل الصيف، ناهيك عن أسباب أخرى جيوسياسية وجيواستراتيجية أكثر أهمية، ربما توحي زيارة الرئيس الصيني المرتقبة لموسكو ببعض ملامحها، ما قد يؤشر لبداية مرحلة جديدة من النظام الدولي متعدد الأقطاب، الذي كنت قد أشرت إليه في مقال نشر لي مع بداية الحرب سالفة الذكر.
من منظور عملي، لا بد من الإشارة إلى أن إصدار المحكمة الجنائية الدولية القرار المذكور، بناءً على طلب عدد كبير من الدول الأعضاء، إنما يعكس نفاد صبر الدول الغربية تجاه تصرفات روسيا الاتحادية، والرئيس بوتين تحديداً، فيما يتعلق بالحرب الدائرة في أوكرانيا، ما قد يشير بقوة إلى إمكانية أن تكون تلك المذكرة بمثابة ورقة ضغط على الرئيس الروسي، الذي لا يزال قوياً في الداخل والخارج، من أجل وقف الحرب التي تؤثر على الأمن والسلم الدوليين بأسرع وقت ممكن.
وبحسب متابعتي عن قرب للمذكرات المشابهة الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، أهمها تلك المتعلقة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير، أستطيع القول إن هدف تلك المذكرة، على الأقل في الوقت الراهن، يتمثل في الضغط على الرئيس بوتين، حتى يقوم بوقف الحرب الدائرة رحاها منذ فترة ليس قصيرة، وكذلك لمنع الرئيس بوتين من استخدام أية أسلحة غير تقليدية، خاصة بعد إعلان أكثر من مسؤول روسي رفيع أن الدول العظمى يمكنها أن تستخدم الأسلحة النووية إذا ما خسرت الحرب.
وأستدل على تلك الأطروحة بإجابة أحد العاملين في مكتب الادعاء العام للمحكمة الجنائية الدولية، أثناء زيارتي لها عدة مرات قبل أكثر من عقد من الزمان، على سؤالي عن مغزى إصدار مذكرة التوقيف بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير في (هذا) التوقيت، حيث أجاب قائلاً ما معناه: إن هدف المذكرة هو منع الرئيس السوداني من ارتكاب جرائم حرب إضافية في إقليم دارفور، ما قد يشكل وسيلة ضغط قوية عليه لمنع أية انتهاكات من قبله للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان.
ومما يجدر ذكره، أن وزن الرئيس الروسي بوتين على الساحة الدولية يختلف بشكل كبير عن وزن الرئيس السوداني السابق عمر البشير، الذي رغم ضعفه وانهيار حكمه لم يتم تسليمه حتى الآن للمحكمة الجنائية الدولية، رغم صدور مذكرة بالقبض عليه تمهيداً لمحاكمته، ربما بسبب معارضة غالبية الشعب السوداني لتلك الخطوة.
من منظور منطقي، فإن توقع اعتقال الرئيس بوتين في المستقبل القريب يعد أمراً بعيد المنال، ليس فقط بسبب التجهيزات العسكرية الهائلة التي تحيط به أثناء سفره الداخلي والخارجي، وقوة روسيا على المستوى الدولي عسكرياً، وسياسياً، واقتصادياً، وإنما أيضاً بسبب أن روسيا ليست دولة موقعة على نظام روما الأساسي، الذي أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية على أساسه، ناهيك عن حذر الرئيس الروسي في تنقلاته الخارجية، حتى قبل إصدار المذكرة، ما قد يعني أن تطبيق تلك المذكرة في الواقع العملي، على الأقل في الوقت الراهن وفي المستقبل القريب، يعد أمراً بعيد المنال، مع استبعاد إمكانية حدوث تغيير جوهري داخل دوائر صنع القرار الروسية، بقصد إضعاف سيطرة الرئيس بوتين، نظراً للتركيبة الحالية للطبقة الأوليغارشية الروسية البعيدة عن أية ولاءات غربية.
ولعل ما قاله المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية، لويس أوكامبو، تعليقاً على إصدار تلك المذكرة أثناء لقاء تلفزيوني مع قناة "العربية" يعكس الواقع، حيث أشار إلى أنه يمكن إلغاء تلك المذكرة بواسطة مجلس الأمن الدولي حال توقف الحرب الدائرة في أوكرانيا، بعد حدوث توافق دولي بشأن الترتيبات ذات العلاقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.