واصل قيس سعيد خطواته نحو تنفيذ خارطة الطريق التي بدأها بإقالة الحكومة وتجميد مجلس النواب وتعليق العمل بالدستور في يوليو/تموز 2021، وتضمنت استفتاء شعبياً على تنقيح الدستور وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة، وكان انتخاب أعضاء البرلمان وعقد جلساته قبل أيام أخر حلقاتها.
في الإطار نفسه وفي محاولة لتعميم الخوف وقمع المعارضة، شهدت تونس في بداية الشهر الثاني من هذا العام، حملة توقيفات واعتقالات شملت مجموعة من السياسيين والإعلاميين ورجال الأعمال والمحامين والقضاة الرافضين لهذا المسار.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن هو: ما مدى تقدُّم مشروع قيس سعيد وفرص نجاحه بعدما أتم تنفيذ خارطة الطريق؟
في الواقع يمتلك قيس سعيّد العديد من نقاط القوة، إضافة إلى ما استطاع أن يحرزه خلال العام ونصف العام تقريباً من الانقلاب، وأهم هذه النقاط هي مؤسسات الدولة والمكون الصلب فيها خاصةً الأجهزة الأمنية التي تعتبر الداعم والساند الحقيقي له وإن لم تظهر بشكل مباشر في المشهد، وقد عادت بنوع من الثأر بعد يوليو/تموز 2021، بعدما تعطل تمكينها في فترة الثورة، خاصةً فترة الرئيس "قائد السبسي"، حيث تجلت ممارساتها مؤخراً في حملات القمع والاعتقالات التي قامت بها.
قوات الأمن كانت عصب النظام القديم قبل الثورة، بعدما تمكن الرئيس بورقيبة في بداية الجمهورية من إبعاد الجيش عن المشهد السياسي، لتصبح بعد ذلك الأداةَ التي يستند إليها نظام الحكم للقمع والحفاظ على السلطة.
بعد 2011 قامت قوات الأمن بإنشاء تنظيمات مهنية، للتعبير عن مصالحها ولعب دور سياسي، خاصة في مسائل المحاسبة التي طالت الأمنيين بعد الثورة.
النقطة الأخرى في نقاط القوة هي ضعف المعارضة وانقسامها على نفسها، والتي كان إخفاقها قبل الأزمة الحالية أحد الأسباب التي ساعدت قيس سعيد في الاستيلاء على الحكم، ورغم معارضتها له الآن فإنها لم تستطع التوحد أو تقديم بديل مناسب يوقف المسار، ولا يتوقف إخفاقها عند هذا القدر؛ بل يمتد ليشمل صراعات وتفككاً داخل كل عنصر، ومكون من مكوناتها المختلفة، وقد شهدت حركة النهضة، أبرز أحزاب المعارضة، انشقاقات واستقالات لعناصر من القيادات والقواعد قبل وبعد الأزمة، وكذلك الحال مع مكونات أخرى، وهو ما زال يخدم قيس سعيد.
على الجانب الآخر كان غضب الشارع من النخبة السياسية والأحزاب أحد أهم الأمور التي يرتكز عليها قيس سعيد في بداية مساره، إلا أنه مع مرور الوقت أصبح سلاحاً موجهاً ضده، وتجلى ذلك في الانخفاض السريع لشعبيته وعزوف الشارع تدريجياً عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية وكان آخرها الانتخابات البرلمانية التي قاطعها أكثر من 90% من الشعب، مما يمكن اعتباره أزمة شرعية كبيرة تهدد نظام الحكم الحالي بقيادة قيس سعيد.
ما يُحسب للمعارضة في هذا الإطار أنها ساهمت في تحويل طبيعة الصراع الذي أراد قيس سعيد فرضه بأنها معركة تصحيح مسار ومواجهة لمنظومة فاسدة، لتصبح المعركة الآن بين انقلاب وديمقراطية بدلاً من الحرب على الفساد، وهو ما كشف المشروع مبكراً.
يعود العزوف الشعبي عن المشاركة السياسية إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة وهي العامل الأهم هنا، وكان ورقة من أوراق قيس سعيد في الاستيلاء على الحكم.
كان من أسباب العزوف الشعبي عن المشاركة السياسية طوال فترة الانتقال الديمقراطي في البلاد توسيع مجال الحريات، الذي جاء على حساب التغييرات والاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما جعل المواطن لا يشعر بفرق كبير بين النظام السابق للثورة وأنظمة الحكم المتتالية بعد الثورة؛ مما أدى إلى ارتفاع السخط على النظام الديمقراطي.
استغل قيس سعيد حالة الغضب الشعبي من الأوضاع الاقتصادية وجاء بخطاب يشدد على محاربة الفساد والفاسدين، وضرورة معاقبتهم، وكان المؤيدون لقراراته يؤكدون أن الأوضاع ستتغير وسينشط الاقتصاد وتتحسن الظروف، إلا أن الأمور زادت سوءاً، حيث تؤكد المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تراجع النمو وتدهور القدرة الشرائية بشكل لافت لعموم المواطنين وسط تآكل الطبقة الوسطى؛ وهو ما دفع متخصصين كثراً إلى التحذير من شبح الإفلاس والفوضى، وقد تحولت هذه الورقة أيضاً إلى نقطة ضعف في المسار السياسي لقيس سعيد بعدما كانت أداة في سبيل تقويض مسار الانتقال السياسي.
الأمر الآخر الذي فقده قيس سعيد خلال الأشهر الماضية، هو انفضاض كثير من مؤيديه مِن حوله وأبرزهم "الاتحاد التونسي للشغل"، حيث كان موقفه في البداية داعماً لمسار الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها سعيد، إلا أنه مؤخراً ندد "اتحاد الشغل" بحملات الاعتقالات العشوائية وتلفيق القضايا التي قام بها سعيد، واعتبرها تغطية على فشل السياسات الحكومية، ورفض ما تمارسه السلطة من اعتداءات ضد النقابيين بمناسبة ممارستهم حقَّهم النقابي.
سيناريوهات متوقعة
رغم مضي قيس سعيد قدماً في مشروعه وآخره قراره حل المجالس البلدية قبل أن تنهي مدتها القانونية كما فعل مع المؤسسات الأخرى، وبالتالي فإنه لا يملك الأدوات الكافية وتعيقه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة وأزمة شرعية متنامية، وفي المقابل لا يملك معارضوه البديل المناسب لتغير المشهد، وهذا الوضع من توازن الضعف- إن صح التعبير- سمة مسار الانتقال السياسي في تونس منذ الثورة، وإن كان الشائع مختلفاً حول الاستثناء التونسي بين دول الربيع العربي.
وبالنظر إلى هذه المعطيات فنحن أمام سيناريوهات مفتوحة، أهمها أن يحصل قيس سعيد على دعم اقتصادي يستطيع أن يحل به مشاكل التونسيين ويستعيد ثقة الشارع كما حدث مع النظام المصري بعد 30 يونيو/حزيران 2013، عندما تم دعمه خارجياً، حيث ساهم ذلك في تثبيت أركان النظام لسنوات، ولكن هذا السيناريو لم يحدث حتى الآن رغم مرور سنة ونصف على الانقلاب التونسي.
أما السيناريو الآخر وهو الأرجح من وجهة نظري، فهو أن تتوافق المعارضة وتقدم البديل الذي يفرض نفسه على الساحة السياسية من جديد ويعيد الانتقال السياسي إلى مساره الصحيح، خاصةً أن بوادره بدت في الفترة الأخيرة عبر دعوات لمبادرات إنقاذ وطنية؛ وهذا ما دفع قيس سعيد إلى حملة الاعتقالات، لكن هذا السيناريو ربما يحتاج بعض الوقت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.