فاجأ الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان مراكز الأبحاث وتوقّعات الخبراء وغرف المكاتب السياسية عندما أعلن عن تقديم موعد الانتخابات إلى 14 مايو/أيار 2023، وسط ركام الزلزال وتأوّهات الجرحى وصرخات المنكوبين، في خطوة جريئة تعبّر عن جرأة سياسية أربكت أحزاب المعارضة التي وجدت في الكارثة الإنسانية مادّة سياسيّة دسمة لانتقاد الحكومة وحزب العدالة والرئيس أردوغان.
فعلامَ يستند الرئيس وحزبه في إقرار موعد الانتخابات؟ وما الذي يخبّئه للمعارضة التي كشّرت عن أنيابها وأعلنت وحدة تحالفها لإسقاطه؟ وهل تتكافأ المعركة أم أنّ في جعبة أردوغان أسلحة تجعله قادراً عن تجاوز تحدّي معارضة هشّة عاجزة عن مواجهة سيل أردوغان الهادر؟!
يأتي قرار أردوغان بتحديد موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية متسلحاً بإنجازات تراكميّة عمرها عشرون عاماً، من تعزيز الاقتصاد وارتفاع الناتج القومي وتوفير فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة حتى أصبحت تركيا ضمن اقتصاديات العشرين الأقوياء (G-20)، إلى اعتماد نظام صحّي متطوّر وبناء مئات المستشفيات، فضلاً عن زيادة كبيرة في عدد المدارس والجامعات، والارتفاع الهائل في ميزانيات البحث العلمي، خاصة في مجال الصناعات الدفاعية ووضع مسيّرات بيرقدار الذائعة الصيت، وسفينة الأناضول الحاملة للطائرات المُسيّرة في الخدمة، دون أن ننسى تعزيز الحريات ونشر القيم واعتماد سياسة خارجية جعلت تركيا في مصافّ الدّول التي يحسب لها ألف حساب في السياسة الدولية.
قد واجه أردوغان الكثير من التّحديات التي عصفت بهذا البلد المحوري الذي تتنازعه أيديولوجيات ضدّية جذرية، وتاريخ طويل من الانقلابات العسكرية وكبت الحريات ومحاربة القيم واستقطابات محلية ودولية حادّة، وثبت على تحالفه مع سياسي تركيا العجوز، قائد الذئاب الرمادية دولت بهشلي، الذي تحوّل من خصم عنيد يريد إسقاط أردوغان عام 2014 إلى حليف وثيق عام 2018، وحققا معاً إنجازات كبيرة وانتصارات متكرّرة.
فهل يستمرّ الحليفان في بناء مجد الانتصارات في جنّة الحكم؟ أم أنها نهاية مشوار أردوغان في معركة يقول المتابعون إنّها من أصعب المعارك الانتخابية التي يخوضها في وجه معارضة تضبط إيقاعها وتشدّ عصبها وتوثق عرى تحالفها وتماسكها؟
معسكران يتنافسان في هذه الانتخابات
يشارك في الانتخابات التركية القادمة 27 حزباً سياسياً وافق المجلس الأعلى للانتخابات على مشاركتها. ولأنّ القانون الانتخابي الجديد الذي تجري على أساسه هذه الانتخابات يغلق الباب أمام الأحزاب الصغيرة لدخول البرلمان، فقد سعت هذه الأخيرة للمشاركة من خلال تحالفات انتخابية تبلورت حتى اليوم أربعة منها هي:
"تحالف آتا" اليميني القومي، ويضمّ خمسة أحزاب قومية انشقّ بعضها عن حزب الجيد في وقت سابق، و"تحالف الحرية والعمل" الذي يضمّ ستّة أحزاب يسارية أبرزها "حزب الشعوب الديمقراطية"، و"تحالف الجمهور" الذي يضمّ إضافة إلى حزبي "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية" مجموعة من الأحزاب الصغيرة اليسارية والكردية والمحافظة. و"تحالف الطاولة السداسية" الذي يضمّ إضافة إلى حزبي "الشعب الجمهوري" و"الجيد" أحزاباً صغيرة محافظة وليبرالية.
ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إنّه بالرغم من كثرة الأحزاب المشاركة وتعدّد التّحالفات القائمة، إلا أنّ الانتخابات البرلمانية كما الرئاسية تكاد تنحصر بين معسكرين اثنين هما: "تحالف الجمهور" و"تحالف الطاولة السداسية". فما هي آفاق هذه المنافسة وحدودها وآفاقها؟
تحالف الجمهور
هو تحالف متين مترابط، حافظ على تماسكه منذ تأسيسه قبل خمس سنوات، وهو يضمّ إضافة إلى "حزب العدالة والتّنمية" بقيادة الرئيس رجب الطيب أردوغان، "حزب الحركة القومية" بقيادة دولت بهشلي، مع "حزب الاتحاد الكبير" برئاسة مصطفى دستيجي، الذي لم يستطِع تجاوز العَتَبة التي تخوله دخول البرلمان، وذلك قبل انضمام حزبي "الرفاه الجديد" برئاسة فاتح نجم الدين أربكان، وحزب الله التركي أو "حزب الهدى" الكردي الإسلامي برئاسة زكريا يابجي أوغلو، مع فتح الباب لأحزاب جديدة مرشّحة للانضمام إلى التحالف كـ"حزب اليسار الديمقراطي" القومي العلماني برئاسة أوندر أكسكا، و"حزب الطريق القويم" القومي من يمين الوسط، وآخرين.
كانت هناك نقلة نوعية في توجّهات حزب "العدالة والتنمية" تعبّر عن انفتاح الحزب ورئيسه ذي الخلفية الإسلامية المحافظة، حين وضع يده عام 2014 في يد الذئب الرّمادي زعيم حزب "الحركة القومية" دولت بهشلي القومي المتشدّد، وقد أثبتت التّجارب التي مرّ بها الحزبان، والتّحديات التي واجهها الزعيمان أنّ تحالفهما عصيّ على التصدّع، حتى ولو كان الثمن انشقاقاً على مستوى خروج أكثر من 60% من كوادر حزب الحركة القومية وتشكيلهم حزباً جديداً معارضاً بقيادة ميرال أكشنار قبل ستّ سنوات!
لا شكّ أنّ المحافظة على تماسك هذا التحالف استدعت تطويع الكثير من الأفكار الأصولية الإسلامية والليبرالية القومية عند الفريقين، لصالح الالتقاء في منطقة وسطى هي القومية التركية وإرث العثمانيين وأمجاد الإمبراطورية العليّة، على اختلاف في فهم المصطلحات وتفسيرها. غير أنّ الحزبين متفقان على التوسّع في عضوية التّحالف، والسّعي لاستقطاب أحزاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بغضّ النظر عن الانتماء الفكري والتوافق البرامجي.، وخير دليل على ذلك قبول انضمام حزبي "الهدى" الكردي و"اليسار الديمقراطي" الليبرالي القومي العلماني إلى التحالف، حيث لا تتّفق طروحات الأول مع "حزب الحركة القومية"، كما لا تتواءم أفكار الثاني مع "حزب العدالة والتنمية"، ممّا يؤكّد أنّ التّحالفات في المعركة القادمة لا تقوم على الأيديولوجيا والبرامج بمقدار ما يتوجّه الاهتمام لحجم التّأييد وعدد الأصوات.
تحالف "الطاولة السداسية"
الْتأمت الطّاولة باجتماع حزبي الشعب الجمهوري برئاسة كمال كليجدار وحزب الجيد بزعامة ميرال أكشنار في انتخابات 2018، ثمّ انضمّ إليهما حزب السعادة عام 2019، ليجتمعوا في 13 فبراير/شباط 2022 بزعماء الأحزاب الثلاثة: أحمد داود أوغلو مؤسّس حزب المستقبل، وعلي باباجان زعيم الديمقراطية والتّقدّم، وغول تكين أويصال رئيس الحزب الديمقراطي، ويعلنوا ولادة أول تحالف سياسي واسع الطيف متعدّد الولاءات والتوجّهات، وأنّ من أولويات هذا الحلف الناشئ إلغاء النظام الرئاسي لصالح نظام برلماني معزّز.
لم يكن تحالف أحزاب الطاولة سهلاً، فحولها اجتمعت ستّة أحزاب بمكوّناتها المتناقضة وتبايناتها الأيديولوجية المتعدّدة، لا يربط بينها رابط فكري أو عرقي، ولا تجمعها رؤية واحدة في إدارة الدولة واقتصادها، أو سياستها وعلاقاتها، حتى إنّنا لا نبالغ إذا قلنا إنّه لا يجمع بين هذه الأحزاب إلا العداء لأردوغان والسعي لإسقاطه، ولهذا لا نعجب أبداً إذا وجدنا رئيسة حزب الجيد تخرج من هذا التحالف عند أول اختبار، ثمّ تعود بعد أن وجّهت لحلفائها انتقادات لاذعة. وما سعي زعماء الطاولة إلى توسيع قاعدة التحالف بالبحث عن أحزاب تحمل نقمتهم على أردوغان وحزبه إلا تأكيد على تحالف الأضداد.
ومن ذلك فمحاولات التقارب مع "حزب الشعوب الديمقراطية" و"الحزب الشعبي الدّيمقراطي الاجتماعي"، وبذل جهود خاصة لاحتواء "تحالف آتا القومي"، وعلى رأسه حزب النّصر، و"تحالف الحرية والعمل" الذي يضمّ ستّة أحزاب يسارية، لا نستبعد أن تعطي أصواتها لمرشح تحالف الطاولة كمال كليجدار، ممّا يشكّل ترجيحاً كبيراً لهذا الفريق في الانتخابات الرئاسية، خاصّة أنّ على رأسها حزب الشعوب الديمقراطية الذي يملك ما لا يقلّ عن 11% من أصوات الناخبين.
هشاشة تحالف الطاولة السداسية
لا يسعنا، ونحن ننظر إلى تحالف أحزاب الطاولة، إلا رؤية تلك الصّورة البشعة التي تفعلها الأحقاد بالأفراد والأوطان على حدٍّ سواء! وكيف يلتقي الضّدّ مع ضدّه على الكراهية لا على الحبّ، وعلى العمل للهدم لا على الرغبة بالإصلاح؟! نعم.. قد نفهم تحالف الإسلامي مع اليميني لوجود بعض الروابط التي تجمعهم في الاجتماع أو الاقتصاد، ولكنّ من غير المفهوم اجتماع الإسلامي مع اليساري الاشتراكي العلماني، فكيف إذا كان هذا الاجتماع بين حزب السعادة وحزب الشعب الجمهوري، على ما بينهما من اختلاف في الفكر وصراع عبر التاريخ.
قد وُلد حزب السعادة من رحم الإسلام السياسي الذي تجلّى في أحزاب النظام الوطني والسلامة والرفاه والفضيلة التي حُلَّت جميعها وواجه قادتها السجن والإبعاد والإقصاء، بمباركة اليسار التركي العلماني الأتاتوركي بزعامة حزب الشعب الجمهوري الذي أدخل تركيا في أتون صراع دموي لم تكن الانقلابات العسكرية ولا قمع الحريات أكبر تجلياته، الأمر الذي صبغ تركيا شعباً ومجتمعاً ودولة صبغةً خاصة منذ مائة عام! وأكاد أجزم أنّه لا يمكن أن يشكِّل تعنّت السّاسة وحقد الأفراد سبباً كافياً لتحقيق تحالف الأضداد.
لقد رأينا منذ أيام قريبة كيف أنّ جماهير حزب الشعب الجمهوري أبت إلا تحدّي الحزب المضيف وجمهوره حين رفعت صورة كبيرة لمصطفى كمال أتاتورك على واجهة مبنى حزب السعادة في أنقرة مع ترداد شعارات العلمانية، دون أيّ مراعاة لما تثيره الشعارات المرفوعة من ذكريات أليمة عانى منها إسلاميو السعادة وقادتهم وكوادر أحزابهم المغلقة عبر التاريخ سجناً وقمعاً ومحاولات استئصال!
ولكن.. هل يكفي أن يعلن مرشح حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار ترشيحه من مركز حزب السعادة، أو أن يعبّر عن تعاطفه مع الصّلاة والحجاب لينسى الآباء والأمهات حرمانهم وأبنائهم من التعليم بسبب الإجراءات القمعية التي قام بها حزبه على مرّ السنين؟! وهل سيتمكن حزب السعادة من إقناع جمهوره بإعطاء أصواته لمن سجن قادته حتى مات زعيمه الرمز: المجاهد نجم الدين أربكان (كما يسمّونه) وهو ممنوع من العمل السياسي؟!
تناقضات حزب الشعب الجمهوري بين التاريخ والحاضر
لطالما لجأ حزب الشعب الجمهوري إلى القمع والإقصاء والانقلاب العسكري سبيلاً إلى الحكم، وهو يصارع الآن للعودة إلى السلطة بأي سبيل، بعد أن قُصّت جوانحه في أروقة محاكم القضاء وفرق الجيش، وفقد القدرة على الانقلاب العسكري وإصدار أحكام حلّ الأحزاب، ولم يعد لديه من سبيل إلا الإعلان عن قبول عضوية المحجبات وعدم ممانعته من أداء كوادره الصلاة، بل وافتتاح مصليات في بعض مراكزه، والانفتاح على المشكلتين الكردية والعلوية.
في تناقض عجيب حاول كمال كليجدار رئيس الحزب العلوي الكردي تقديم نفسه كمجدّد لأيديولوجيا الحزب القادم من أقصى يسار اليسار، عبر الانفتاح على الغرب وأوروبا، ومدّ اليدّ لأمريكا الرأسمالية وروسيا الاشتراكية في آنٍ! فاتحاً ذراعيه للإسلام السياسي، معلناً ترشحه من مركز أحد أعرق أحزابها، منادياً بالحريات وانتهاء مرحلة القمع والسجون، إنّها معضلة فكرية تاريخية يعيشها حزب الشعب الجمهوري في سبيل الوصول، ولا تصمد الوصولية أمام الحقائق، ولا يمكن أن يتماسك العقد مع خيوط العنكبوت.
أحزاب الطاولة والتحالف الهشّ
لا تقف هشاشة الطرح وبروز التناقض وطغيان الخلاف الصارخ على حزبي السعادة والشعب الجمهوري، لأنّه لا شيء يجمع حزب المستقبل وزعيمه أحمد داود أوغلو الإسلامي المحافظ، مع تلك الأحزاب الصغيرة التي كان من أكبر محاربيها حين كان جزءاً من حزب العدالة والتنمية أو رئيساً للوزراء، ولا مع أصحاب الطروحات الليبرالية الكمالية التي كان ينظّر للقضاء عليها وطمس هويتها والقفز فوق طروحات أصحابها.
ومثله حزب الديمقراطية والتقدّم الذي لا يمكن أن يصنع منظومة قيمه الفكرية ومتبنّياته الأيديولوجية عداء زعيمه علي باباجان لرئيس حزبه السابق رجب الطيب أردوغان، وكذلك الحال مع غول تكين أويصال الذي لن يفيده كثيراً تغيير اسم حزبه من الطريق القوم إلى الديمقراطي لاستعادة أمجاد ذهبت مع تجذّر القيم وأصالة الفكر لدى شرائح الشعب التركي؟!
أمّا زعيمة حزب الجيد الطامحة للرئاسة الناظرة بازدراء إلى تلك الأحزاب التي تريد أن تشاركها سيطرتها دون أية مقومات انتخابية غير أسماء لامعة ليس لها رصيد انتخابي، فلن تنسى لها ليّ ذراعها حين رفضت تفرّدها بنيابة الرئيس، ثم بالتبرؤ من ترشيح كمال كليجدار، وصولاً إلى إجبارها على العودة إلى الطاولة منصاعة لضغوط لم تستطع الفكاك منها.
الصوت الكردي المرجح
يربط زعماء الطاولة حلفهم الانتخابي بخيط العداء لأردوغان والسعي لإسقاطه، مع عجزهم عن تقديم رؤية واضحة يمكن أن تقنع الناخب التركي بجدوى طروحاتهم، ويحاولون في طريقهم إلى 14 مايو/أيار 2023 خلط الزيت بالماء، داخل ائتلاف لا يأتلف، فضلاً عن السعي إلى الإتيان بحزب الشعوب الديمقراطية إلى ائتلاف الطاولة، فهل يساهم ذلك في وصول مرشحهم إلى رئاسة الجمهورية؟ أم أنه جمع بارود الكرد مع زيت القوميين وما يمكن أن يتسبب به من انفجار التحالف واحتراق الطاولة ومن حولها؟
فهل يساهم الصوت الكردي الذي يتنافس عليه الفريقان في فوز أردوغان مجدداً كما فعل عام 2011 حين حصل حزب العدالة والتنمية على 52% من أصوات الكرد؟! معركة قاسية يخوضها الفريقان، حيث كلّ الأسلحة مباحة، فهل يفرّق الشعب التركي، الذي اختار الديمقراطية ورفض منطق الانقلابات منذ زمن بعيد، بين الغثّ والسمين، فيختار لمستقبله من يؤتمن على حماية حقوقه وحريته وأمنه ورفاهه؟ أم أنّها الشعارات العاطفية والعصبيات هي التي ستحكم صندوق الاقتراع في الانتخابات القادمة؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.