في أثناء القرن الخامس الهجري شهد العالم الإسلامي تطورات كبيرة في أنظمة الحكم التي تعاقبت عليه، ففي القرن السابق الذي عُرف بقرن الشيعة كان معظم العالم الإسلامي تحت حكم الاثني عشرية والإسماعيلية، فمن خراسان وحتى المغرب الأقصى امتدَّ حُكم البويهيين والفاطميين والحمدانيين والقرامطة والصُليحيين، وبسبب انقماع الخلافة العباسية وضعفها، وهي يومذاك رمز العالم السُّني تحت حكم البويهيين الشيعة خرجت نظريات سياسية حول قضية الخلافة أو الإمامة تتناول الأمر من زاوية تكييف هذا الواقع لصالح الخلفاء العباسيين لإبقائهم تحت هذه السطوة البويهية مع استمرار الخلافة، ولو كانت ضعيفة مُهلهلة صورية، في محاولة منه لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، وقد قاد هذه المحاولة الفقيه والقاضي والسفير العباسي الإمام الماوردي في كتابه "الأحكام السُّلطانية".
ولكنّ معاصراً له بعيداً عن العراق هناك في نيسابور نواحي خُرسان في المنطقة الواقعة اليوم بين نيسابور الإيرانية وحدود جمهورية تُركمنستان وقف أمام هذا الطرح الذي رآه تلفيقياً غير متوافق مع رؤية أهل السُّنة والجماعة الشاملة، ولا الرؤية الأصولية لقضية الإمامة أو الخلافة أو زعامة المسلمين التي يجب أن يكون المتأهّل لها رجلاً قادراً قوياً، تابعاً لا متبوعاً، قاد هذا الطرح إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني، العلامة الأصولي المجتهد، واللافت أن كلاً من الماوردي والجويني كان شافعياً أشعرياً، ولكن الظروف السياسية والجغرافية لكل من الرجلين كانت متباينة؛ فالماوردي كان واقعاً تحت سيطرة العباسيين والبويهيين، والجويني كان مقرّباً من نظام الملك الطوسي وزير السلاجقة الشهير، وهم يشقون طريقهم في زمن السُّلطان الكبير ملكشاه بن ألب أرسلان، وكان قد وعده بكتابة مثل هذا الكتاب ليساعده على فهم قواعد الإمامة والزعامة، وقد أوفى له بالوعد.
والجويني أجمع كلّ من أرّخ له من التلاميذ والمؤرخين والعلماء بمختلف مذاهبهم الفقهية والعقدية أنه كان علامة عصره وأوانه في أصول الدين والفقه والفروع، يُعدّ من قلائل المجتهدين من العلماء، والاجتهاد أعلى مراتب العلم الشرعي، فدونه المقلدون والمصنّفون الناقلون والناقلون للآراء المعيدون ثم طلبة العلم، وقد ظل ثلاثين عاماً في نيسابور وشرق العالم الإسلامي إماماً مجتهداً بلا مُزاحم، وبنى له الوزير نظام الملك الطوسي المدرسة النظامية في بلده، ومن كنفه تخرج علماء كبار مثل العلامة أبي حامد الغزالي والخوافي وإلكيا الهراسي وغيرهم ممن ساروا على درب أستاذهم الجويني في ميادين العلم والسياسة والأخلاق والزهد.
ألَّف الجويني العديد من المؤلفات الكبيرة التي تخطت أربعين مؤلفاً، باقية الأثر حتى يومنا هذا مثل موسوعة "نهاية المطلب" في فقه الشافعية وهي الموسوعة التي أقرّ كل من السبكي وابن القيم وغيرهما أنه لم يُكتب مثلها في فقه الشافعية حتى زمن الجويني، وكتاب "البرهان" و"الكامل"، وكتاب "غياث الأمم في التياث الظُّلم" الشهير بـ"الغِياثي"، وهذا الكتاب وإن ضمّنه المؤلف مباحث من مسائل الفروع الفقهية، فقد جعل نصفه أو أكثر من النصف لتناول مسألة الإمامة والخلافة وقيادة الأمة في وقت كان منصب الخليفة ضعيفاً شكلياً أمام البويهيين الشيعة، ثم من بعدهم السلاجقة السُّنة الذين كان يعضّدهم الجويني ويرى فيهم وفي وزيرهم نظام الملك الطوسي أملاً في تحرير الأمة من الخرافات والعقائد المنحرفة، ودرعاً قاصماً للثوار والمتآمرين أمام وحدتها، ووسيلة لتحقيق مقاصد الإسلام الكبرى.
ولهذا لم يخُض في كتابه الغياثي المنهج الذي اتخذه سابقه الإمام الماوردي في "الأحكام السلطانية" في نقل الآراء، وإقرار إمارة التغلب والتفويض والأمر الواقع في ظلال الخلافة العباسية القائمة، وكأنما رضي بسلطة البويهيين وشرع في تسويق هذه السُّلطة وضعف الخلافة العباسية لعامة الناس من خلال "الأحكام السلطانية".
بيد أن الجويني اتكأ على الأصول الثلاثة في تقرير مسألة الخلافة أو زعامة المسلمين السياسية من القرآن والسُّنة والإجماع، وأعمل رأيه كمجتهد، وانتقد المؤلّفين الذين ينقلون الآراء دون ترجيح أو إبداء الرأي فيها معرّضاً بالماوردي، واعتبر النقل عن السابقين انتحالاً وسرقة علمية، ولكن يجب أن يأتي كلام السابقين عَرَضاً، فهو يقول: "ولو ذهبتُ أذكرُ المقالات وأستقصيها، وأنسبها إلى قائليها وأعزيها؛ لخفتُ حصلتين؛ إحداهما خصلة أحاذرها في مصنفاتي وأتقيها وهي سرد فصل منقول عن كلام المتقدمين مقول، وهذا عندي يتنزّل منزلة الاختزال والانتحال، والتشييع بعلوم الأوائل، والإغارة على مُصنّفات الأفاضل، وحقّ على كل من تتقاضاه قريحته تأليفاً وجمعاً وترصيفاً أن يجعل مضمون كتابه أمراً لا يُلفى في مجموع، وغرضاً لا يُصادفُ في تصنيف، ثم إن لم يجد بُدّاً من ذكرها أتى به في معرض التذرع والتطلع إلى ما هو المقصود والمعمود".
والجويني في مسألة الإمامة في كتابه "الغياثي" لم يخرج عن نهج أهل السُّنة والجماعة وفق الأُسس المنعقد عليها الإجماع لديهم، فقد نفى -كما نفوا من قبله- النصَّ على الإمامة لفئة أو طائفة معينة، كما لدى الشيعة المؤمنين بالنصّ والعصمة في آل البيت أو في فرع منهم، واعتبر الجويني قضية الإمامة مسألة "ظنية" أي اجتهادية وليس مقطوعاً بها أو عقدية كما عند الشيعة بطوائفهم أو الفكرة الفارسية التي تجعل مكانة الحاكم فوق مستوى البشر، وهي الأفكار التي نراها تتوافق مع نظرية التفويض الإلهي "الثيوقراطية" التي حكم بها ملوك الغرب في أوروبا قرونا عديدة.
يرى الجويني أن الإمامة/الخلافة/رئاسة المسلمين ظنّية اجتهادية حيث لم يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها طريقة محدّدة لاختيار الحاكم، فعقدها يكون منعقداً على أهل الحلّ والعقد، وهو مصطلح سنراه في معظم تراثنا الكلامي والعقدي والفقهي والأصولي، وهم الأفاضل المستقلّون الذين يملكون الخبرة العلمية والسياسية الكافية لاختيار الحاكم المؤهّل، وينفي الجويني القداسة عن الحاكم أو الخليفة، ولا يراه أعلى شأناً من العلماء والفُضلاء وعامة الناس، ولكنه فقط اختير ليكون مستناباً في تنفيذ الأحكام الشرعية، فالجويني يتفق مع علماء الإسلام في أن الدنيا مطية لتحقيق الدين وقواعده وأصوله وشرعة الإسلام فيه، ولهذا السبب يرى أن الغرض الأصلي للإمامة في الإسلام أن يستبقي الخليفة/الرئيس/الحاكم قواعدَ الإسلام طوعاً أو كرهاً، وأن يحرص على جمع عامة الناس على مذاهب السلف السابقين في وقت تبدّلت فيه الآراء، وزاغت الأهواء، وتشرذم الناسُ إلى مذاهب وانحرافات، يقول: "والإمام في التزام الأحكام، وتطوّقِ الإسلام كواحدٍ من مُكلّفي الأنام، وإنما هو ذريعة في حمل الناسِ على الشريعة".
ويتكئ الجويني في هذه الآراء على نموذج سياسي تحقّق بالفعل في تاريخ الإسلام من شقّه السياسي، لا سيما في عهود الدولة النبوية والراشدية والعادلين من الخلفاء والسلاطين، وهو بهذا الطرح ليس كالفلاسفة الغربيين الذين تخيّلوا المدينة الفاضلة، والدولة الراشدة، فإذا كان العقد الاجتماعي الذي تناوله جان جاك روسّو كان في زمنه مجرد رؤية وخيال حالم، فقد سبقه الجويني بقرون مستنداً على تجارب سياسية حقيقية وقعت في زمن الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم، بل وكان على رأس المدافعين عن شرعية السلاجقة لتحقق المقاصد التي تناولها في كتابه الغياثي فيهم.
ولكنه أيضاً في ظل حديثه عن الشروط التي يجب توافرها في ولي الأمر يرفض -خلافاً لبعض الفقهاء الآخرين- أن يكون متصفاً بالفسق، بل يشترط فيه الورع والتقوى، وينصّ على أن تركَ الناس سُدى أفضل من تولية الفاسق الفاسد؛ لأنه كما يقول: "لو استظهرَ بالعتاد (القوة)، وتقوّى بالاستعداد، لزاد ضيره على خيره، ولصارت الأهب والعددُ العتيدةُ للدفاع عن بيضة الإسلام ذرائعَ للفساد، ووصائل إلى الحيد عن مسالك الرشاد". ويعلنها صراحة في مواضع أخرى من كتابه "الغياثي" مؤكداً أنه "لا يجوز عقد الإمامة لفاسق". ويبدو من الناحية الأخلاقية أن الجويني على حق في تشدده هذا؛ إذ رأينا في تاريخ المسلمين أن تولية الفسقة أو الفاسدين ممن يقعون في الخطايا والذنوب الواضحة، وتستهويهم الشهوات يمكن أن يعرضوا أمن المسلمين للخطر، بل يبيعوا أرضهم للمحتل والغاصب، ويعرضوا أمنهم وأموالهم وأعراضهم للخطر والبلوى!
يتفق الجويني على الشروط العامة التي تناولها فقهاء السياسة الشرعية ممن سبقوه ولحقوه في الإمام أو ولي الأمر مثل الشورى فيجب عليه "ألا يغفل الاستضاءة في الإيالة وأحكام الشرع بعقول الرجال، فإن صاحب الاستبداد لا يأمن الحيدَ عن سنن السداد".
ويرى الجويني جواز خلع ولي الأمر الضعيف والغائب والمأسور عند العدو، وهو بهذا يقر ضرورة أن يكون ولي الأمر قوياً مُطاعاً بين الناس، لأن ضعفه وبال على نفسه وعلى عامة الناس، ويُغري هذا الضعف العدو والمنقلب والمتحفّز بالانقلاب عليه، وإذا استولى على السلطة رجل بقوة السلاح والعتاد والرجال، فإن الجويني حينذاك يتناول هذا الأمر المستجد الذي يشبه في يومنا هذا ما نسميه بـ"الانقلاب العسكري"، في الباب الثاني من كتابه بعنوان "القول في ظُهور مستعدّ بالشوكة مُستولٍ"، وهو بهذا يسبق ابن خلدون بثلاثة قرون الذي أقرّ بأن الملك والسلطة لا تقوم إلا بعصبية وقوة.
على أن الجويني يُقسّم هؤلاء المستولين على السلطة بالقوة العسكرية إلى ثلاثة أقسام، فأن يكون المستولي بالقوة رجلاً صالحاً للسُّلطة وولاية الأمر خَلقاً وخُلقاً، وأن يكون غير مستجمع للشروط كاملة التي تناولها الفقهاء وعلماء السياسة الشرعية، ولكنه يجمع بعضها أو نصفها فهذا من "الكُفاة"، ولذلك نراه يدافع عن الوزير نظام الملك الطوسي ومن ورائه شرعية السلاجقة؛ لأنهم حققوا مصالح المسلمين "فإن الطاعة مبسوطة، وعُرى المُلك برأي سلطان الزمان منوطة، وحوزة الإسلام والحمد لله محوطة، والأُبّهة قائمة، وقاعدة الـمُلك راسخة، والمملكة مستمرّة على علائها، ولواء النصر معقود".
والصنف الثالث أن يكون مستبداً مجرماً فاسقاً، وهذا الباب من أمتع ما كتبه الجويني، فقد أبان فيه عن منهجه المنطقي تأصيلاً وتفريعاً كأصولي ومتكلم، ينطق بالحجة والبرهان والتاريخ والرأي الفقهي المعتبر، ويدرك الواقع السياسي في عصره، فضلاً عن ديناميكيات الأمر الواقع، وعلى رأسها مراعاة مصالح الناس والدولة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.