يأتي الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية في وقت تجري فيه مياه كثيرة في نهر التغيير على الساحة العالمية والإقليمية، وفي ظل تفاعلات عديدة بين قوى شرق أوسطية ودولية، مدفوعة بمحركات التحول في النظام العالمي، بعيداً عن الهيمنة الأمريكية.
يخضع النظام العالمي لعملية تغيير قد تبدو فوضوية، لكنها تقود، لا محالة، نحو تعددية قطبية، تتشكل ملامحها على ساحات عدة؛ في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وأماكن أخرى في العالم، وتعكس الحرب الروسية الأوكرانية التحول نحو هذه التعددية؛ حيث انقسم العالم منذ بداية هذه الحرب إلى 3 معسكرات: أمريكا وحلفاؤها، والصين ومعها روسيا وكوريا الشمالية وإيران، وعلى الجانب الآخر دول العالم التي رفضت الانحياز لأي من الطرفين.
تعاون صيني روسي إيراني
يُلذكر أن المعسكر "الصيني الروسي الإيراني" يشهد تعاوناً على أصعدة مختلفة؛ سياسياً واقتصادياً وعسكرياً؛ وفي إطار التعاون العسكري أُعلن مؤخراً عن بدء تدريبات ومناورات بحرية مشتركة في خليج عمان، في الفترة من 15 إلى 19 مارس/آذار بمشاركة الصين وإيران وروسيا.
الجدير بالذكر، أنه منذ الأول من ديسمبر/كانون الأول 2019 تقوم الدول الثلاث بتدريبات عسكرية مشتركة، بمشاركة السفن الحربية والطائرات التابعة للقوات البحرية لهذه الدول، فيما يُعرف بـ"حزام الأمن البحري".
قد توسع التعاون بين الصين وإيران، وتحديداً في مجال الأمن نتيجة للبيئة العالمية المتوترة والحرجة، وتعزز هذا المحور الإيراني الصيني على خلفية المشاكل التي نجمت حول توقيع اتفاقية جديدة بشأن البرنامج النووي الإيراني.
من ناحية العلاقات العسكرية الروسية الإيرانية، تبدو الصين غير مرتاحة للتقارب العسكري الإيراني الروسي في الحرب الأوكرانية؛ نظراً لتوجه الصين نحو اتخاذ موقف محايد منذ نشوب الحرب، ويمثل التعاون المتعمّق بين طهران وموسكو تهديداً لموقف بكين الحيادي تجاه هذه الحرب.
يعد التنافس بين القوى الكبرى في المنطقة محركاً أساسياً لتوسيع علاقات الصين الحالية مع إيران من ناحية، ومع السعودية ودول الخليج عموماً من ناحية أخرى.
تنظر الصين إلى أن بناء علاقات قوية ومستقرة مع منطقة الخليج، يتطلب تعزيز التعاون مع 3 دول رئيسية، هي: الإمارات والسعودية وإيران، علماً بأن حجم تعاون الصين مع السعودية والإمارات يفوق حجم تعاونها مع إيران.
ونظراً لأسباب جيوسياسية؛ فقد اتجهت الصين نحو تعزيز التعاون مع إيران، في إطار سعي بكين إلى تكوين تكتل شرقي بعيداً عن الغرب؛ لكيلا تقع تحت مقصلة العقوبات التي تعرّضت لها روسيا مع اندلاع الحرب في أوكرانيا.
في الوقت الذي يتزايد فيه التعاون الاقتصادي والعسكري والسياسي بين الصين وروسيا وإيران، تنظر واشنطن بريبة وقلق لهذا التعاون، في ظل تحديات تواجهها الهيمنة الأمريكية في شرق أوروبا، وفي غرب وشرق آسيا.
الاتفاق السعودي الإيراني
على أعتاب بكين وبوساطة صينية انتهت القطيعة الدبلوماسية بين السعودية وإيران، التي استمرت نحو 7 سنوات، شهدت المنطقة خلالها صراعاً بين الطرفين، عبر حروب بالوكالة في اليمن وسوريا.
يمكن اعتبار الاتفاق السعودي الإيراني أنه اتفاقية استراتيجية تعكس التغيرات الحاصلة على الساحة الدولية، والتحولات في النظام العالمي. وعلى أقل تقدير يمثل الاتفاق هدنة بين الطرفين، وانطلاقاً نحو مرحلة جديدة لإدارة التنافس بوسائل دبلوماسية، بعيداً عن المواجهة العسكرية.
الاتفاق المعلن بين السعودية وإيران برعاية صينية، في العاشر من مارس/آذار 2023، تضمن إعادة فتح سفارتي البلدين، خلال شهرين كحدٍّ أقصى، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، والاحترام المتبادل، والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
مسار جديد بين قوتين إقليميتين
يحمل البيان الصيني السعودي الإيراني المشترك تداعيات قوية تتجاوز الإعلان عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض.
الاتفاق السعودي الإيراني يحمل دلالات ذات أهمية، وتفاؤلاً حذراً بمسار جديد بين قوتين إقليميتين بارزتين تطلان على الخليج العربي، وبينهما العديد من الملفات الخلافية، كما يمثل منعطفاً مهماً للعلاقات في المنطقة، وعلى مستوى المعادلات الدولية.
فعلى مدار سنوات سابقة، كانت الخلافات على أشدها بين السعودية وحلفائها من جهة، وإيران ومن تدعمهم من جهة أخرى، وكان تمدد النفوذ الإيراني في العراق، ولبنان، وسوريا، مثار قلق دائم للسعودية، كما مثل برنامج إيران النووي، وتطوير قدراتها الصاروخية مزيداً من الوقود لهواجس السعودية ودول الخليج تجاه إيران.
بعد إعلان البيان الثلاثي "السعودي الإيراني الصيني" بالاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وُجد تفاؤل لطي صفحة الخلافات بين البلدين، وأن تشهد علاقاتهما مساراً جديداً، ينزع فتيل التوترات في المنطقة.
لكن يبقى هذا التفاؤل من وجهة نظرنا تفاؤلاً حذراً، وربما علينا الانتظار لمعرفة النتائج على أرض الواقع، خاصة فيما يتعلق بالنفوذ الإيراني في اليمن، وسوريا ولبنان، والعراق، والذي ينطلق من استراتيجية إيرانية لحماية أمنها، عبر لعب دورٍ قيادي في المنطقة العربية.
دور صيني صاعد وتغيير في المعادلات السياسية
قد مثّل خبر الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية مفاجأة لكثير من المراقبين للخلافات بين البلدين، لكن الحقيقة أن هناك مقدمات عديدة كانت تؤشر إلى أن قطار الخلافات على وشك الوصول لمحطة اتفاق قريب.
كانت زيارة الرئيس الصيني للرياض في أواخر عام 2022 أحد المؤشرات التي يمكن التقاطها للوصول لاتفاق في المستقبل المنظور بين دولتين ترتبط الصين بشراكات استراتيجية معهما.
لقد بنت الصين استراتيجيتها على عدم التورط في الصراعات الإقليمية، وقد مثلت الخصومة المتصاعدة بين السعودية وإيران تحدياً لتوازن السياسة الخارجية الصينية في العلاقة مع جارتين إقليميتين أنشأت مع كل منهما شراكة استراتيجية لتوسيع وجودها الاقتصادي في الإقليم.
فمنذ بدايات القرن الـ21 زاد الارتباط الاقتصادي بين دول الخليج والصين، وأصبحت السعودية وإيران ركيزتين أساسيتين للتوجه الصيني حيال الخليج؛ لكونهما مصدرين بارزين لتصدير البترول، ولدورهما المنتظر في المشروع الصيني الكبير مبادرة الحزام والطريق.
قد نجحت الصين برعايتها الاتفاق بين السعودية وإيران، وخفض التوتر بينهما، في الحفاظ على تحقيق التوازن في مقاربتها تجاه البلدين، وبما يصبّ في صالحها، وصالح دول المنطقة.
لتأكيد نجاح الدور الصيني في الوساطة بين السعودية وإيران، فإنه من المهم الانتقال من مرحلة إدارة الصراع للحفاظ على حد أدنى من الاستقرار، إلى العمل على حل النزاع بين البلدين على المدى الطويل والحفاظ على الاستقرار في المنطقة.
من الأهمية بمكان، التأكيد على أن أي اتفاق لا يتطرق لمعالجة مناسبة للنشاطات التي تؤدي إلى عدم الاستقرار في الإقليم، قد يؤدي إلى خوض الصين في مستنقع صراع بين حليفيها الاستراتيجيين في الخليج.
ولئن كان واضحاً من ذي قبل أن الصين لا تطمح إلى لعب دور أمني في المنطقة، أو أن تكون بديلاً للولايات المتحدة الأمريكية في منطقة نفوذها التقليدية؛ إلا أن الصعود الصيني، وتطور الأوضاع على الساحة الدولية، واعتماد الصين الكبير على واردات الطاقة من الخليج، ربما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى دور أمني كبير في الخليج.
من وجهة نظرنا، فإن الدور الصيني مرشح للتعاظم في المنطقة، في ظل توجه بعض بلدانها، وخاصة مصر ودول الخليج، نحو تنويع شراكتها الاستراتيجية مع قوى دولية مختلفة تشمل أمريكا والدول الأوروبية والصين وروسيا، وبعدما أكدت التجارب أن أمريكا حليف لا يمكن الاعتماد عليه في اللحظات الحرجة.
خسارة أمريكية وضربة استراتيجية لإسرائيل
قد لاقى الإعلان عن استئناف العلاقات بين السعودية وإيران ترحيباً إقليمياً ودولياً، باستثناء إسرائيل، التي تراه ضربة موجعة، وكارثة استراتيجية، ويُلحق الضرر بجهود توسيع اتفاقات "إبراهام" لتشمل المملكة العربية السعودية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كان الاتفاق بين السعودية وإيران محل ترحيب حذر وتشكك؛ حيث أعربت واشنطن عن شكوكها في احترام طهران لالتزاماتها.
الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية قد لا يضر المصالح الأمريكية، بل هناك دوائر أمريكية تنظر إلى هذا الاتفاق على أنه محبّذ، ولكن المشكلة تكمن في أن هذا الاتفاق تحقق بوساطة صينية، وهذا يعني قفزة دبلوماسية كبيرة لـ"بكين"، وخسارة كبيرة لـ"واشنطن"، حيث تبدو الصين جاهزة للعب أدوار دبلوماسية في قضايا دولية تقع في نطاق النفوذ التقليدي لأمريكا، في ظل مشهد دولي مرتبك ونظام عالمي يخضع للتغيير، وعلاقات دولية تمر بتحولات استراتيجية؛ ما يستوجب على واشنطن التأقلم مع الواقع الجديد.
على جانب آخر، أُعلن الاتفاقُ السعودي الإيراني في وقت تحاول فيه أمريكا، ومعها إسرائيل، خلق تحالفات وتنسيقات إقليمية لردع إيران وتطويقها؛ وهذا يعني بلا شك خسارة كبيرة لأمريكا، وكارثة استراتيجية لإسرائيل.
جاء الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية مدفوعاً بتحولات إقليمية ودولية عززت الحاجة إلى هذا الاتفاق. ولا شك أن السعودية وإيران قد تأثرتا باستحقاقات القطيعة في العلاقات على مدار السنوات السابقة.
المؤكد أن القطيعة تعني الخسارة، وغياب العلاقة المباشرة زاد تعقيد المشهد الإقليمي، وسمح لآخرين باللعب على أوتار القطيعة لتعميقها والاستفادة منها؛ أما العلاقة المباشرة فهي توفر الأرضية المناسبة لحل الكثير من المشكلات، مهما كانت درجة تعقيدها، وتساهم في تحقيق مزيد من الاستقرار في المنطقة، بعيداً عن سياسات المواجهة المكلفة لكل الأطراف.
أكد الاتفاق السعودي الإيراني أن المملكة العربية السعودية تمتلك هامشاً من المناورة، واستطاعت أن تحول العقبات إلى فرص، مستثمرة التحولات العالمية، وتدرك أهمية إحداث توازن في علاقاتها الدولية. ولا شك أن هناك مصلحة جيوسياسية للسعودية ودول الخليج في تطبيع العلاقات مع إيران، رغم الاختلاف في عدد من الملفات الشائكة بين الطرفين.
كما تبرق الوساطة الصينية برسالة إلى واشنطن بأن السعودية تسعى لتنويع تحالفاتها، وهذا يمثل ورقة ضغط على واشنطن في الوقت الذي تطلب فيه المملكة من واشنطن ضمانات أمنية ومساعدة في تطوير برنامج نووي مدني، وفرض قيود أقل على مشتريات السلاح، مقابل المضي في تطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي.
أما على الجانب الإيراني، فسيطمئن الاتفاق طهران بأن السعودية لن تنزلق في تطبيع مع إسرائيل، ولن تكون قاعدة لأي نشاط إسرائيلي أو أمريكي ضدها.
ختاماً.. رغم أن الاتفاق السعودي الإيراني يؤكد تنامي نفوذ الصين، مقابل تقلص في النفوذ الأمريكي إلى حدٍّ ما، فإنه من المهم تجنب المبالغة حول انعكاسات الاتفاق على صعيد التنسيق الأمني بين دول الخليج وأمريكا وإسرائيل، والذي لن ينتهي بعد.
ولئن كان هناك من رابح أكبر فهي الصين، التي تقدم نفسها كصانعة للسلام العالمي، وكوسيط مؤهل لتحقيق السلام في الحرب الروسية الأوكرانية، وبذلك تؤكد على مبادئها التي أعلنتها في مبادرة الأمن العالمي، وروّجت لها كوسيلة لإصلاح النظام الدولي.
لا شك أن الجميع في المنطقة رابحون في حال تنفيذ الاتفاق السعودي الإيراني، فأي مواجهة عسكرية في المنطقة لا تخدم سوى مصالح إسرائيل، لكن من المبكر أبضاً الحديث عن طبيعة العلاقات، وعن إمكانية أن يكون هناك تفاهما تاما بين البلدين، خاصة أن الاتفاق لا يعني أن الانقسام الجيوسياسي بين الرياض وطهران قد انتهى، ويبقى تنفيذ الاتفاق على أرض الواقع هو المحك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.