منذ قديم الزمان، وكما أخبرنا الله عز وجل في كتابه الحكيم عن فرعون الطاغية الديكتاتور الذي جعل من نفسه إلهاً وأمر شعبه بأن يعبدوه دون الله تحدياً وكفراً برب موسى وهارون، وقد أنكر وجود الله واستصغر عظمته فقال: "وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ"، استهزاءً ومكابرة وعناداً.
كان نبي الله موسى يسوق الآيات الواضحة كالشمس تباعاً، ليقنع فرعون بالعدول عن تكبره وجحوده، وفرعون يحاول بكل جبروته أن يدحضها ويبطلها بالحجة الواهية والطمس، إلى آخر القصة المعروفة، كما ذكرت في القرآن الكريم، وكانت النهاية أن أهلك الله هذا الطاغية.
في كل حقبة وتاريخ، تتكرر لنا صورة فرعون المتغطرس العنيد، فهو نموذج للتكبر والعنجهية والاعتزاز بالإثم، وربما ظهرت لنا صورة فرعون في حالات متنوعة، ففي عصرنا، قد نصاب بحالة فرعون الفكر، ويحدث أن يحمل كل منا فرعونه الصغير، ذاك الذي يسيطر على العقل، وحين يستسلم الإنسان لفرعون عقله العنيد المتكبر، فيعمى قلبه وعينه فلا يعود قادراً على الاستبصار، ولسان حاله يقول كما قال فرعون لشعبه: "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ".
فعندما يتسيد فرعون العقل يستولي على إدراك صاحبه، فيصبح مطية له، وخادماً مطيعاً لأوامره، وذلك بعد أن يختار بمحض إرادته رفض جميع أبواب الانعتاق من سلطان فرعونه، ويقرر البقاء في زنزانته رغم مداخلها المفتوحة، فيبالغ في عجرفته، وزهوه بالباطل وإن رأى الحق رؤيا العين.
هذا يقودني للمرض الأشد فتكاً بالعقل ألا وهو " تصلب المواقف "، والجمود الفكري والذي يحدث نتيجة المدخلات التي آمنت بها وصدقتها فاستقرت في ذهنك، وعطلت قدرتك على تغيير وجهاتك الذهنية، فأبت أن تتزحزح من محلها، وهل لها أن تتنحى، وقد طوقتها برعاية إرادتك، فطابت مستقراً ومقاماً، فكل من هذه المدخلات سيظل يحمل الصفات الفرعونية طالما يرفض المرونة الفكرية، ويقدم لحالة من سيطرة الفكر على التفكر والتدبر.
حيث إن الفكر هو ما تمخض عن التفكر وانسجم ونما معه، وعندما يهيمن الفكر على التفكر فإنه بدايةً يعرقل عملية التفكر ويعطلها، ثم يغير منتج الفكر ليكون خادماً ذليلاً لفكرته! فحين تقرر مسار العقل ولا تسمح له بالتحرر من قيوده الفكرية، فيرغم نفسه والآخرين على قبول فكروياته قسراً، وكل معارضة لها ربما تؤدي إلى نوع من المحاسبات المتزمتة المادية والمعنوية.
إلى جانب ذلك فإن هذا المرض يؤدي إلى شلل العقل وربما إلى انتحار قدراته وهذه عاقبة تسلط الفكر على التفكر، فالعقل مهما كان عظيماً، وانقاد خلف فرعونه، فيصيبه العمى، حتى عن نفسه إلى أن يقع، لذلك فكل تعطيل للتفكر هي حالة من العمى الفرعوني الاختياري.
إن فرعون لم يمت! فكم من أشباه فرعون يعيش بيننا؟! ويمارس غطرسته وتكبره الفكري على من هم تحت دائرته، فأشباه فرعون ينتشرون بشكل مخيف، فربما تجدهم في منزلك، أو عملك، أو بين أصحابك، وأضرار التأثير الفكري الفرعوني لا تقتصر على الشخص نفسه فحسب، بل تمتد لتصل إلى الآخرين، فتحرمهم فرصهم وآمالهم وتعيق تقدمهم، وتحقيق أمانيهم، وربما بلغ الضرر نفوسهم.
هؤلاء يحتاجون دائماً إلى أشخاص يغذون عظمتهم ، ويصدقون على أقوالهم ، ويهزون لهم رؤوسهم بالإيجاب والقبول والإذعان، فكل من يحمل فكراً جديداً ومنظوراً مختلفاً، فهو منشق عن الصف، تتنزل عليه أسخط العذابات.
من الجيد أن تحصن نفسك، وتسمح لنفسك بتناول اللقاح الذي من شأنه أن يخلصك من حالة الفكر الفرعوني، فتفتح آفاقاً جديدة من خلال تقبل الآخر وفصل نتاجه الفكري عن شخصه، والتدبر من خلال النظر المتعدد الزوايا والمسافات، وممارسة الرقابة العقلية، واختبار أفكارك.
فمثلاً عندما تصطدم بمن يعارض إحدى قناعاتك الراسخة، ورغم أنك تشعر بأنك على حق، كن مستعداً لأن تبقى منفتحاً على تقبل احتمال كونك مخطئاً، ثم اطرح على نفسك بعض الأسئلة مثل: لماذا أصدق بهذا الاعتقاد؟ ولماذا يرى الآخرون شيئاً لا أراه؟ ولماذا يصلون إلى اتجاهات مختلفة؟ في الواقع هذا التفاعل الفكري الذي يحدث في عقلك يسهم في تمديد عضلة المرونة الفكرية لديك.
ختاماً.. ابحث عن من يختلف معك وليس من يتفق معك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.