من القضايا التي أجدها مهمة جداً وآسف لغيابها عن نظامنا التعليمي الجزائري، هي قدرته على مسايرة التطور التكنولوجي الخرافي المتسارع، وحسن استعمال ما يوفره من وسائل ومعلومات كثيفة في مزاولة العملية "التعليمية التعلمية"، فليس من العقل والمنطق أننا ما زلنا نكتب بلغة التهديد والوعيد لتلاميذنا المقبلين على الامتحانات الرسمية أن "الآلة الحاسبة ممنوعة "، ثم نعتقد أننا تطورنا!
فبعدما كانت ممنوعة تماماً حتى بدايات تسعينيات من القرن الماضي، هاهي الوصاية النبيهة تساير التطور التكنولوجي الرهيب، وتتكرم على طلبتنا بإمكانية استعمالهم للحاسبة البسيطة (التي يستعملها بمهارة أبسط تاجر في السوق) والظاهر أن مسؤولينا محكومون بالمثل الشعبي القائل: "على راس صبيعتي ولا ننسى عادتي..!" عند إضافتهم لشرط أن "لا تكون مبرمجة"..! فبالإضافة إلى أن مصطلح "حاسبة غير مبرمجة" مصطلح فضفاض، ولا يمكن التعرف بدقة عليها أثناء الاختبارات لتعدد أنواعها تبعاً لكثرة صانعيها ولسهولة تمويهها، أحببت أن أعلق، فأقول:
1- الأصل في مثل هؤلاء المسؤولين السلبية وغياب الكفايات اللازمة، فيلجأون آليا لاستعمال الرفض والمنع، فقدراتهم على مسايرة التطورات وفهم الإشكاليات منعدم، فيختفون وراء قرارات إدارية جافة، لاعلاقة لها بثقافة القيادة والتسيير، فضلاً عن العقلية التربوية البيداغوجية.
2- تأثير المنظومة السياسية السائدة واضح في مثل هذه القرارات (التي الأصل فيها أنها بيداغوجية..)، أين يحتكم المسؤول التربوي (مسايرة للجو السائد) إلى نظرية "الكل أمني" ويحل الإشكالات التي تطرح عليه بهذا المنطق (المنع، قطع الطريق، عرقلة ما يظنه تهديداً قادماً..) مثله مثل أي مسؤول في أي قطاع آخر يواجه كل التحديات بالمسارعة إلى وضع المُمهلات (الدودان) كأول وأبسط حل سحري يُجيده قادتنا الأشاوس.
3- مثل هذه الحلول تعطي إشارات واضحة للحدود والأهداف البسيطة (حتى لا أقول الساذجة) المنتظرة من منظومتنا التربوية:
أولاً: بريطانيا وتقنية "ChatGPT"
بالرغم من أن هذا البؤس الذي نعيشه مع منظومتنا التعليمية اعتدنا عليه بمنطق "الألفة الغافلة" فإن قرار بريطانيا بالسماح للتلاميذ (المتقدمين لاجتياز البكالوريا الدولية) بالاستعانة ببرنامج "ChatGPT" في مقالاتهم (وفق ما ذكرته صحيفة 'التايمز البريطانية يوم 27 فبراير 2023) أيقظني من غفلتي ونبهني إلى الكيفية التي يُساير بها العالم المتقدم الطفرة التكنولوجية، وإلى سر مهم من أسرار تفوقهم، ولمن لم يطلع بعد على 'الشات جي بي ثي' الذي أحدث ثورة في عالم التكنولوجيا مؤخراً، نقول إنه برمجية من أحدث وأشهر تطبيقات الذكاء الاصطناعي حالياً وحتى الآن بلغ مستخدموه أكثر من 100 مليون، مما يجعله التطبيق الأسرع نموَاً على الإطلاق، وهو متعدد الاستخدامات يسمح لمستعمله بشرح مفاهيم علمية معقدة أو كتابة ووضع برامج للحاسوب وتصحيحها، وكتابة وتأليف قطع موسيقية، ومسرحيات وحكايات وحتى كتابة مقالات قصص وقصائد بأساليب مختلفة، والإجابة على أسئلة الامتحانات.. إلخ.
وهذه من المهام والاستخدامات التي ستتطور أكثر فأكثر مع الوقت، ولتقريب الصورة أكثر يمكن أن نقول إن ChatGPT هو نسخة مطورة (متقدمة جداً في خدماتها) لمحركات البحث المعروفة مثل جوجل.
ثانياً: الأفضل الحظر
سيقول كل من تشرب ثقافتنا النمطية واعتاد اتخاذ موقف سلبي من كل جديد، أن السماح باستعمال هذه البرمجية المذهلة سيقتل الإبداع عند طالب العلم ويجعله أسيراً للآلة وما تقدمه تقنيات الذكاء الاصطناعي، فأين شغف الدراسة، وأين التفوق والإبداع؟! والكل متاح له إحضار مقال يحرره التطبيق دون عناء ولاحاجة للإجتهاد أومحاولة الفهم، والغريب ربما هذا ما فهمه الكثير من مسؤولي التعليم في دول كثيرة (بعض الولايات الأمريكية، الصين، الهند) فسارعوا إلى حظره ومحاولة منع استعماله، بخلاف بريطانيا التي سارت في التشجيع على استعماله، فما الموقف الأمثل لنا من بينهما؟!
لو نعود قليلاً إلى زمن قريب نجد أننا جُبلْنا على الرفض الآلي لكل جديد، بل والسعى لمحاربته، ففي ثمانينيات القرن الماضي مثلاً واجهت تقنية التلفاز بالصحن المقعر(البارابول) عند ظهورها تشكيكاً ورفضاً وحتى سوء ظن بمستعمليها حينها، ومع الوقت زالت كل الحواجز وأصبح استعمالها عادياً، بل وعلى أوسع نطاق (وهاهي كتقنية في طريقها إلى الزوال..).
نفس النظرة السلبية عرفتها الإنترنت عند بدايات انتشارها ودخولها إلى بيوتنا، وأذكر جيداً المناقشات الحادة حولها، ومحاولة البعض توصيفها بأنها أداة فساد وإفساد والدعوة لرفضها، وعلى نفس المنوال فُرضت الإنترنت وأصبحت أداة أساسية للعمل والدراسة والتواصل وحتى التسلية وغيرها..
وبالعودة إلى أبعد من ذلك قليلاً نجد أنهم كانوا يعتبرون أن من يستمع إلى الراديو (مع بدايات استعماله التجاري في نهايات الأربعينيات) منحرف، وأفتى بعضهم بفسقه..!، ولا ننسى من جرّم الهاتف، ومن عطل نهضة الأمة بتأخير دخول الطابعة قرنين كاملين، وغيرها من التقنيات والوسائل، ثم يصبح المرفوض لاحقاً جزءاً من واقعهم، لا يمكنهم تجاوزه ولا الاستغناء عنه..! وهذا ما أخشى تكراره مع تقنية "ChatGPT".
ثالثاً: الاستخدام بشكل أخلاقي
أمام ظاهرة الغش في الامتحانات (الرسمية خاصة)، وحتى في أيام الدراسة العادية نجد أن الوسيلة الأساسية التي يلجأ إليها الغشاشون من الطلبة هي الإنترنت، ولأنهم يرون بعين عليها غبش يلجأ مسؤولونا (كمن يحاول تغطية ضوء الشمس..) إلى قطع الإنترنت أيام الامتحانات الرسمية، كما حدث خاصة أيام حكم نورية بن غبريط رمعون، وزيرة التربية الوطنية الجزائرية، التي كانت معروفة بخلفيتها الأمنية.
فألحقوا أضراراً بالغة بمصالح الناس المختلفة وأعطوا صورة سلبية عن البلد (متأخر ما زال مسؤولوه يؤمنون بإمكانية التحكم في القمر وإنزاله في قصعة) دون أن يحققوا شيئاً يُذكر، فلا الغش توقف ولا الإنترنت اختفت!
وحتى تعامل الكثير من الأساتذة مع البحوث والمقالات ومختلف النشاطات التي يقدمها طلبتهم في الغالب سلبي، ومبني على الرفض والتشكيك، بحجة نقلها عن جوجل أو غيره، والظاهر أن الكثير منهم يعتقد (مثلهم مثل وصايتهم..) أن بإمكانهم وقف تمدد الإنترنت في حياتنا اليومية والمهنية!
أمام هذا المسعى المستحيل أليس الأولى لو نفكر بطريقة عكسية، فعوضاً عن محاولة الحظر (غير الممكنة أصلاً..!)، لما لا نستغل ما يوفره لنا التطور التكنولوجي المرعب لتسهيل الدراسة وإنجاز الأعمال والواجبات في أسرع وقت وبأقل التكاليف. وكذلك منح طلبتنا ومدارسنا الإمكانات اللازمة لاستغلال واستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي، وأحاول التدليل على هذا الخيار وفق المعالم والمعايير التالية:
١-أول قاعدة نتفق عليها أن إمكانية استفادة أو استعانة الطلبة بما توفره تطبيقات الذكاء الاصطناعي "ChatGPT" وغيره، لا تعني بأي حال من الأحوال القبول بادعائهم أنها من إنتاجهم، فالفرق واضح بين تقديم عمل أصلي وآخر يوظف فيه الطالب أفكاراً ونصوصاً لأشخاص آخرين، كما يحدث مع أي اقتباس فلا بد من تسجيلها (في متن النص أو الإشارة إليها في قائمة المراجع..).
٢- الأجدر بنا ألا نخاف من مثل هذا البرنامج أو غيره، لأن ثورة الذكاء الاصطناعي نعايشها كحقيقة واقعة ولامفر منها، كما أنها تمثل فرصة استثنائية للإنتقال بمستوى منظومتنا التعليمية بسلاسة ويسر إلى المستويات الأعلى للمعرفة.
فإذا كنا عاجزين عن الخروج من أدنى مستوياتها (التذكر والفهم) رغم إعلان النية (على استحياء) للوصول إلى مستوى التطبيق (تدريب الطالب على استغلال المفاهيم المجردة التي حفظها واستوعبها للإجابة على وضعيات جديدة..) فإن حسن فهمنا للثورة الرابعة وحسن الاستفادة منها سيرفعنا إلى مستوياتها الأعلى (القدرة على التحليل فالتقويم، ولمَ لا الابتكار…) بأسرع وقت.
٣- أكيد مع استعمال مثل هذا البرنامج الجديد ستفقد بعض الأعمال والنشاطات المدرسية الحالية أهميتها، فمثلاً ما نحشو به كراريس أبنائنا تحت عنوان "مصطلحات وشخصيات" في مادتي التاريخ والجغرافيا، ونشغل به ثلثي أوقاتهم في حفظها تصبح لا معنى لها، ونفس الشيء يصبح ما نعتقد أنه ملمح معبر عن نجاحنا في تدريس الرياضيات عندما نُحفّظ الطالب خطوات دراسة دالة ويرسم منحناها، لم يعد شيئاً مذكوراً؛ لأن الآلة تقوم بذلك في أقل من ثانية، وكذلك كتابة المقال بأنواعه تفقد أهميتها والأمثلة لا تنتهي، ونجدها في مختلف التخصصات هنا يظهر الإبداع الحقيقي وقوة الإنسان بحيث:
-نتفق أنه حتى يتمكن التطبيق من القيام بأي نشاط بلمسة زر، فمن الضروري أن يتقن مستعمله من طلبتنا مهارات مختلفة ومتجددة.. يحتاج أن نكونهم عليها.
-بتجاوزنا لمستويي الحفظ والاستيعاب نصل بالطالب إلى المستويات الأعلى بأن ندربه مثلاً على توظيف الشخصيات والمصطلحات في تحليل حقبة أو منطقة، استغلال منحنى الدالة لفهم الظاهرة المراد دراستها (مثل منحنى إصابات كورونا الذي سمح للمختصين بتحديد فترة الذروة والاستعداد لها..)، وتقويم المقال وتحديد إن كان جيداً (متحيزاً؟، أغفل سياقاً ما؟، فيه إبداع؟) فمثل هذه المهارات وغيرها ستكون أهم بكثير من النشاطات التي نصرّ ونعضّ عليها حالياً، ومن هنا كان من الضروري أن نغيّر مهام التقييم والتقويم التي نعمل بها حالياً.
4- المحصلة: ما يعنيه الذكاء الاصطناعي على المدى الطويل هو أننا سنقضي وقتاً أقل في حشو عقول طلبتنا بمعلومات يحصلون عليها بكبسة زر، مقابل وقت أكبر في فهم المشكلات، وصفها وتحليلها، ثم الوصول إلى القدرة على الحكم عليها وتطويرها وهذا شيء علينا أن نسعى إليه، وليس حظره ومحاربته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.