تابعت حفل توزيع جوائز الأوسكار في دورتها الخامسة والتسعين، كعادة كل عام، حفل رائع مليء بالمرح والمفاجآت، ولكن الليلة كانت أكثر فانتازيا من اللازم، حيث تم تتويج فيلم "كل شيء، كل مكان، في نفس الوقت everything everywhere at once" بسبع جوائز، منها جائزة أحسن فيلم، في مفاجأة كبيرة في الليلة الأبرز لمحبي وعشاق السينما في كل عام.
تأتي المفاجأة لعدم توقع تتويج الفيلم بالجائزة السينمائية الأبرز في ظل ترشيح فيلم the febelman، الذي تم تجسيد حياة المخرج ستيفن سيبلبرج فيه، أو فيلم the banshees of the inshrein، الذي كان من أبرز الترشيحات للحصول على نصيب الأسد من الجوائز، أو على جائزة أفضل فيلم، ولكنها الأكاديمية التي لا يمكن توقعها أبداً!
كل شيء: عوالم متعددة في فيلم واحد
يبدأ الفيلم بصراخ امرأة آسيوية بسبب تراكم المهام عليها، رجل وامرأة يعيشان في شقة فوق مغسلة مثقلة بالضرائب، ومهدّدة بالإغلاق، وخلافات بين أم وابنتها بسبب علاقتها مع فتاة أخرى!
سير الأحداث بتلاحق لن يسمح للمشاهد بالتوقف للتدقيق فيما سيحدث أو لربط الخيوط الفنية ببعضها البعض. يضعنا الفيلم أمام تساؤلات عدة، أبرزها: هل ما يعرضه هو التجلي الأعظم لتقنيات الميتا فيرس -تعدد الأكوان- بشكلها العلمي، أم أنها حُمى حبكة عمل بداخل عمل انتقلت من العوالم الأدبية إلى العوالم السينمائية، بحُكم الحاجة في التجريب والتجديد!
بداية الفيلم يمكن أن تتشابه مع أي مقدمة لفيلم سيدور عن أزمة منتصف العمر وحياة الإنسان المعاصر في زمن الضرائب الباهظة والتهديدات المستمرة بالحجز على الأموال والحبس، ولكن ما أن يظهر عنوان "كل شيء / الجزء الأول" يبدأ العرض الحقيقي لفيلم تجريبي سيريالي بامتياز! يدور الفيلم عن العوالم المتعددة، كل شخصية في الفيلم موجودة في عوالم أخرى متوازية في نفس الوقت، وفي نفس المكان مع بعضهم البعض. لا يتبنى الفيلم عوالم محدودة لتضييق النطاق، ومن ثم لتركيز رسالته أو تقليص الوقت الذي يمتد لأكثر من ساعتين، بل إنه يتمدد ويتشعب في عوالمه، مما يصيب المشاهد غير المعتاد أو المحب لهذا النوع من الأفلام بالتشتت أو كما حدث معي أنا بالملل، ومن ثم السقوط في النوم خلال المشاهدة!
كل مكان: الركض في العوالم المتعددة
تعاني بطلة الفيلم "إيفلين" من أزمة منتصف العمر، بعد سنوات من اختيارها الزواج والعيش بعيداً عن أسرتها، ومن خلال العوالم الموازية -مالتي فيرس- تواجه مشكلات أخرى في حيواتها، إذا تبدلت خياراتها في حياتها المادية التي تحياها كزوجة وأم. تبدو أزمة منتصف العمر هي القضية الرئيسية بالرغم من وجودها بشكل هلامي داخل العالم الفانتازي، بالإضافة لمشكلات الطفولة التي تترك أثراً في داخل كل شخص منا، وهو ما يبدو في نقاشات إيفلين وابنتها التي تتجسد كشخصية شريرة في عالم موازٍ آخر يحاول الجميع التخلص منها لحماية أنفسهم من شرها، باستثناء أمها التي تظل متمسكة بها حتى النهاية حتى لا تشعر بالذنب تجاهها، وكي لا تُعيد تكرار ما فعله معها والدها في الماضي حينما تركها ترحل مع رجل ستعيش معه حياة زوجية تعيسة، وستظل نادمة على اختيارها طول الوقت.
لم يتمسك الرجل بابنته، ولكن بطلة الفيلم التي تُعيد اكتشاف نفسها بسبب الشعور بالخطر تتمسك، تواجه بقوة ما ليس لها عليه أي قوة فقط لشعورها بالواجب.
يتطرق الفيلم بين ثناياه لقضايا معاصرة، ويطرح أسئلة جادة داخل المشاهد الهزلية.. ما الفائدة من الركض؟ كيف نجد الحياة في عالم شديد السرعة يحتاج المرء فيه لأكثر من شخصية لمجاراة وتيرته المتسارعة في كل لحظة؟ ما الذي سنجنيه؟ تتجلى الفانتازيا هنا بصورها المتعددة بين الخيال العملي والواقعية السحرية، بإضافة الكثير من العبث وتداخل العوالم. الجرأة في طرح كل هذه الهزلية ربما كانت السبب في احتفاء الجميع بفيلم يُقدم اللُّطف على القوة، الإنسان في جوهره مقابل تحول الإنسان في عصرنا الحالي لآلة لا يكفيها العمل بشكل دائم في عالم واحد لتسديد الفواتير أو حتى ممارسة الهوايات، بل إنه يحتاج للتشظي، للانقسام لعدة آلات في عدة عوالم موازية لمجاراة عوالم متشعبة لا يمكن السيطرة عليها.
في نفس الوقت
يتم تقسيم الفيلم لثلاثة أجزاء غير متساوية، لا يفصل المشاهد بين واقعي وخيالي، لاعتماد الفيلم على توازي الحيوات كحبكة أساسية. في كل عالم تصطدم إيفلين بحقيقة تحكم قوى الشر بابنتها، وفي الوقت الذي تحاول فيه تخليص العالم من شرها تقرر التضحية لتكون هي شرير هذا العالم الموازي فقط لإنقاذ ابنتها، تنكشف مواهبها وتطفو على السطح من خلال التخيُّل أو التمني، أو من خلال استدعاء الذاكرة الذاتية لما أرادت أن تكونه في الماضي ومدى بُعده أو قربه من حياتها الحالية شديدة القسوة من خلال إدراك حقيقة انهيار مشاعرها تجاه زوجها وعائلتها.
بميزانية 25 مليون دولار نجح الفيلم في صنع ضجة كبيرة بتتويجه بجائزة الأوسكار، بالرغم من عدم توقع حصوله على أي جائزة، وبإيرادات اقتربت من حاجز 100 مليون دولار يضعنا الفيلم أمام تساؤلات عدة عن شكل المشهد السينمائي العالمي خلال سنوت قليلة، فلم تتوقف المفاجأت في الحفل بذهاب جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة إلى "ميشيل يوه" التي انتقدت منذ عدة أيام ترشيح "كيت بلانشيت" لنفس الجائزة، أو بحصول الأمريكي صاحب الأصول الفيتنامية "كي هيو كوان" على جائزة أفضل ممثل مساعد، تكمن المفاجأة في إجماع العديد من المهرجانات السينمائية السابقة على جدية طرح فيلم "كل شيء كل مكان في نفس الوقت" والاحتفاء الكبير من الجماهير والنقاد به.
ربما يتخطى هذا التوجه العام النظرة الخاصة بالصوابية السياسية المُتبناة حالياً من كل الجهات الفنية في كل العالم، رغم إمكانية تتويجه لهذه الأسباب فقط لأنه فيلم سينمائي متعدد الأعراق ويوجه خطابه لنقد معاديين المثلية الجنسية أو لإشارته لحقوق المرأة بشكل عام حتى لو من خلال طرح شديد الهشاشة داخل حبكة سينمائية مربكة.
الفيلم الذي ارتبطت مشاعر بعضه مشاهديه بالدهشة والقرف ممتزجين يبدو وكأنه تسبب في ثورة فنية لن يتوقف أثرها بسهولة، لأنه سيفتح أبواباً عديدة على مصراعيها للتجريب والخلط ومزج الأوراق وتمرير الرسائل التي تتوافق مع الصوابية السياسية لتخدم صنّاعه في الأساس من الناحية المادية والترويجية ومن ثم تخدم رسالة فنية قد تكون غير حقيقية، أو غير ناضجة للطرح.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.