من الملاحظ أن العالم منذ اللحظات الأولى في الحرب الروسية الأوكرانية، قد تلقف خبر وضع الرئيس الروسي بوتين القوات النووية الروسية في حالة التأهب القصوى، بكثير من الدهشة والحيرة.
الأمر الذي أفشى حالة من الارتباك والخوف، ليس فقط بين متابعي الحرب الروسية الأوكرانية، بل أيضاً بين القيادات العالمية وحكام الكثير من دول العالم. وهو أمر مخيف حقيقة، خاصةً أنه يُذكّر العالم بإحدى أسوأ المحطات، وهي إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية، في شهر أغسطس 1945، قنبلةً ذرية على مدينة ناغازاكي اليابانية، والتي راح ضحيتها حوالي 74 ألف شخص، والتي جاءت بعد ثلاثة أيام من الهجوم النووي الذي دمّر مدينة هيروشيما، وأسفر عن مقتل ما يفوق 140 ألف شخص، كل ذلك تم في دقائق معدودة جداً.
ذلك الهجوم دشن عهد التفوق الأمريكي الدولي على باقي القوى الأخرى، وكان أيضاً من أهم الأسباب التي دفعت إلى إنهاء الحرب العالمية الثانية. تلك المحطة ما زالت راسخةً في الذاكرة العالمية، وهي ملهمة في صناعة القرارات، واتخاذ المواقف الدولية المهمة، ويبدو أن الصراع الدائر في أوكرانيا سيأخذ هذا المنحى.
ولذلك نجد أن التهديد باستخدام الأسلحة النووية، بصرف النظر عن مشروعيته، وبعيداً عن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، مازال ورقة ضغط تستعملها العديد من الدول، لتُوازن بها القوة، وتؤثر على مسارات الضغط، وتنتهج عقيدة الردع الاستراتيجي لتحقيق سلام حذر، يتربص لحظات التهاوي أو تغيّر موازين القوى.
وأهم الشواهد على هذا الطرح يأتي في سياق الحرب الكورية في الخمسينيات بالقرن الماضي، عندما هددت الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام الأسلحة النووية ضد الصين وكوريا الشمالية، وهو تهديد ألقى بظلاله على مسار صناعة القوة لدى الصين إلى اليوم.
أيضاً أزمة الصواريخ الكوبية عام 1961، كادت أن تتسبب في حرب عالمية ثالثة بأسلحة نووية، إلا أن تراجع ضباط الغواصة السوفييتية عن استخدام السلاح النووي هو الذي أبعد العالم عن كارثة محققة.
هذا التوازن في القوة دفع بالمجتمع الدولي إلى وضع إطار قانوني يضبط التسلح النووي، ويحد من انتشاره، ما جعل التهديد السوفييتي وتُقابله الترسانة النووية الأمريكية يعد الأساس لتدشين اتفاقيات دولية، من أجل الحدّ من الأسلحة النووية على مستوى العالم.
غير أن تلك الاتفاقية والجهود الدولية التي صُرفت للحدّ من انتشار الأسلحة النووية، والتسابق نحو ذلك، لم تكن كافية، وربما كانت تتسم بالازدواجية في التعامل، وهو ما انعكس على المخزون العام العالمي من الأسلحة النووية، حيث إن عدد الرؤوس النووية في المخزونات العسكرية العالمية آخذٌ في الازدياد مرةً أخرى، ورسم خارطة غير منضبطة توجد فيها القوات النووية.
وبذلك نجد الحرب في أوكرانيا قد أماطت اللثام، وكشفت عن حجم الخطورة التي تحيط بهذا العالم، وبيّنت أن هناك سباقاً محموماً لتحديث ترسانة الدول التسع التي تمتلك الرؤوس النووية، ومنه أصبحت الأسلحة النووية بشكل لافت أدوات في استراتيجية تلك الدول الأمنية والعسكرية.
وبهذا الصدد قد أصدر اتحاد العلماء الأمريكيين (FAS) تصنيفاً مفصلاً حول امتلاك القوة النووية، تحت عنوان "الغوص العميق في الترسانات النووية في العالم"، حيث بيّن فيه احتلال روسيا قمةَ الترتيب، فيما يخص المخزون من الرؤوس النووية في العالم، حيث بلغت التقديرات بامتلاكها 6257 رأساً نووياً، استناداً لآخر إحصاء صدر في أكتوبر 2021.
تليها الولايات المتحدة بإجمالي مخزون بلغ 5600 رأس نووي، ثم الصين بمجموع 350، ثم فرنسا التي تمتلك 300 قنبلة، ورؤوساً نووية، والمملكة المتحدة تمتلك حوالي 225 قنبلة نووية، وباكستان من 60-80 رأساً نووياً، والهند 150 رأساً نووياً، وكوريا الشمالية التي تمتلك الصواريخ الباليستية الحاملة للرؤوس النووية، والكيان الإسرائيلي الذي لم يضع التقرير الإحصائيات حول امتلاكه للرؤوس النووية، وقد أشار إلى الغموض الكبير الذي ينتاب المعلومات حول ترسانته النووية، وأنه لا يمكن لأحد أن يُفصح عنها؛ خوفاً من الملاحقة القضائية، كما تم مع الخبير الإسرائيلي مردخاي فعنونو، في عام 1986، والذي حُكم عليه بـ18 سنة سجناً.
ومن زاوية أخرى، هناك دول تحاول أن تمتلك السلاح النووي تحت مظلة الاستخدامات السلمية، حيث نجد إيران كمثال تكشف عن برنامجها النووي، والمتمثل في إنتاج حوالي 120 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، هذا الرقم حسب المختصين يفوق الطاقة التي تتطلبها الاستخدامات السلمية المقدرة بـ5%، وأن الكمية المعلن عنها تفوق تلك التي قدّرتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية بحوالي 84 كيلوغراماً.
كما أن هناك دولاً توجد على أراضيها رؤوس نووية أمريكية لا تقل خطورة، كبعض الدول الأوروبية التي تضع القارة الأوروبية أمام خطورة الانفجار النووي، وهو تقرير أشار إليه الصحفي فويكي بوستما، في موقع "بيلينغ كات" البريطاني، حيث تطرّق فيه إلى تحديد مواقع القنابل النووية الحرارية الأمريكية المخزنة في أوروبا.
وعلى هذا النحو من التسابق نحو امتلاك الأسلحة النووية، ووضع خارطة نووية عالمية تخدم القدرات العسكرية لبعض الدول، إلا أنه ينبغي الإشارة إليه وفق العقيدة الاستراتيجية للدول الكبرى، التي تمتلك الأسلحة النووية، على اعتبار أن امتلاك أسلحة مثل هذه وتطويرها، والعمل على تحديثها، يأتي وفق الاستراتيجية الردعية وليس الهجومية، وليس متصوراً ببساطة أن يكون مقبولاً أن يُطلق العنان للنزعة الهجومية على نحو استخدام الرؤوس النووية، ولنا أن نتخيل إذا ما استخدمت دولة ما الأسلحة النووية فحتماً هناك ردة فعل في اللحظة ذاتها، وربما من منصات مختلفة، كدفاع شرعي، من هنا يتصور أن التلويح بالتهديد والاكتفاء به هو العقيدة التي تتبناها تلك الدول، وأيضاً ما فسّرته محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري المشار إليه سابقاً، في حال إذا ما كان التهديد وجودياً للدولة.
وبهذا الصدد فإن روسيا قد أصدرت العقيدة النووية الروسية في شهر يونيو من عام 2020، وأكدت على أنها تعتبر الأسلحة النووية وسيلة ردع ودفاع فقط، في وجه أي خطر يتهدد سيادة البلاد ووحدة أراضيها، وحماية مصالحها ومصالح حلفائها أيضاً. وبالعقيدة ذاتها تقول الولايات المتحدة إن بإمكانها استخدام الأسلحة النووية في حال تهديد كبير- وغير محدد- لمصالحها أو مصالح حلفائها. ونفسها طرحتها دول حلف الشمال الأطلسي، بالإضافة إلى الصين، التي لم يغِب عن ذاكرتها الابتزاز النووي الأمريكي في الحرب بين الكوريتين في خمسينيات القرن الماضي، ومع ذلك تبقى العقيدة النووية دفاعية وردعية في وجه القوى النووية الأخرى.
من خلال هذه الاستراتيجية الردعية لمختلف الدول التي تمتلك الأسلحة النووية، تبرز لدينا فكرة توازن القوى، وأن السلاح النووي يدخل في مصافّ الأسلحة غير التقليدية، وليس متصوراً أن يكون هجومياً بالأساس، على الأقل في هذه الحقبة من التاريخ، لشمولية دماره وآثاره، التي لا تفرق بين الأهداف العسكرية أو المدنية، كما أنه يصعب احتواؤه مكانياً وزمانياً.
إلا أنه يبقى سلاحاً للموازنة يصنع استراتيجية الردع، ويُحدث توافقاً بميزان القوة، تتوقف معه حسابات العدوانية والتوسع غير المبرر لصالح قوى ضد أخرى، ومن ثم التهديد به يأتي وفق عقيدة ردعية دفاعية، حتى تعيد الدولة أو الطرف المعادي إلى الوضع الذي تتكافأ فيه القوى، ويصعب التنبؤ بحسم الصراع.
وبالرجوع إلى ما قام به الرئيس الروسي بوتين، بالإشارة الضمنية بتهديده باستخدام السلاح النووي في حربه ضد أوكرانيا، ورغم تباين التحليلات، منها ما هو متعلق بالحالة الكاريزمية للرئيس، التي تسمح باحتمالية استخدامه لهذا النوع من السلاح، ومنها ما تعلق بالخدعة التي يستخدمها، ومنها ما يشير إلى العقيدة الاستراتيجية الروسية المتمثلة في الردع.
أياً كان الوضع والمبرّر في ذلك، فإن هناك نتيجة نلحظها، وهي انكفاء أمريكا والاتحاد الأوروبي، وأيضاً دول حلف شمال الأطلسي، بدعم الحكومة الأوكرانية، وتوقيع عقوبات اقتصادية، وفي الجهة المقابلة فرض أمر الواقع الروسي، ليس فقط على أوكرانيا، بل حتى الاتحاد الأوروبي، من هنا يتبين أن التهديد باستخدام السلاح النووي كان رادعاً وضابطاً لأي خطأ قد ترتكبه دول الحلف الآخر.
وحتى نقوم بإسقاط مبدأ توازن القوى على منطقتنا وما يدور فيها من صراع وتنافس دولي، فلنا أن نتصور عالمنا العربي والإسلامي خالياً تماماً من أي استراتيجية ردعية، رغم أن في القلب منه الكيان الإسرائيلي، الذي يمتلك ترسانة نووية عدوانية في المنطقة.
كما أن الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط، والتي ربما تكون ساحة للتصادم الدولي والإقليمي، وأعني هنا فرنسا الاستعمارية، وهي أيضاً من ضمن الدول التسع التي تمتلك الأسلحة النووية، فلنا أن نتخيل حال دولنا في حال اختل ميزان القوة في المنطقة، وشهدت تهديدات من هذا النوع، ربما يذهب البعض للإشارة إلى حلفاء الدول الكبرى مثل روسيا (إذا كان صادقاً)، لكني مجبر أن أطرح سؤالاً: ما الثمن الذي ستدفعه الدول لحماية أمنها ووجودها؟
أعتقد أن الإجابة عن مثل هذا السؤال لا تقبل التسرع، ولا تُبنى على النوايا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.