في الآونة الأخيرة، التي تزيد عن أشهر، كثّفت الوفود العسكرية الغربية والعربية من زياراتها للجزائر ومقابلة القادة العسكريين الجزائريين، ومقابلة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون.
في الأسابيع الأخيرة كانت هناك زيارات كبيرة ورفيعة المستوى للوفود، وصارت المؤسسة العسكرية الجزائرية تستقبل وفداً عسكرياً وتودع آخر.
كانت الوفود على مستويات عالية في جيوش بلادها، من وزراء الدفاع، إلى مسؤولي الأمن القومي، إلى قيادات الأركان أو مديري كبرى المديريات العسكرية، من مديرية التعاون الدولي والتسليح والصناعات الدفاعية.
كثرت التساؤلات والاستفسارات عن تلك الزيارات المكثفة حول معرفة الأسباب والدوافع والخلفيات، رغم وجود تصريحات، وصدور بيانات مشتركة بين المؤسسة العسكرية الجزائرية وغيرها من الوفود العسكرية الغربية والعربية، وصدور بيانات إعلامية من وزارة الدفاع الجزائرية.
مع كل هذا تبقى هذه التساؤلات بحكم ما يمر به العالم من تحولات وتحديات وصراعات، خاصةً بعد مرور عام كامل على الحرب الروسية الأوكرانية، وما أحدثته من تداعيات على أوروبا وأمريكا وروسيا نفسها، والعالم أجمع، وكذلك حالة الاصطفاف والاستقطاب، وما يهدد دولاً متخندقة مع روسيا أو مع الغرب، وأصبح الاهتمام والأولوية للعسكري، على الدبلوماسي والسياسي.
مع تعثّر الحل السياسي السلمي التحاوري مع منطق الحرب السائدة، حيث تتجه الأمور نحو المزيد من التوتر، فانتقلت مؤشرات التوتر وبوادر الصراع إلى مناطق أخرى من العالم في الشرق الأوسط، من انفجار الوضع الأمني والسياسي في فلسطين المحتلة والمقاومة، والكيان الصهيوني وأزمته السياسية والأمنية، حيث يعيش تهديداً إيرانياً مع اقتراب تخصيب اليورانيوم وصناعة القنبلة النووية الإيرانية.
بالإضافة للخلاف في منطقة الباسفيك بين أمريكا والصين في قضية جزيرة تايوان، وكذلك جاءت ارتدادات الحرب الأوكرانية إلى القارة السمراء ودول الساحل وغرب إفريقيا، والتنافس الاقتصادي الأمني مع فرنسا، وتوتر العلاقة الإفريقية مع فرنسا، ودخول روسيا والصين واليابان على خط الصراع في إفريقيا.
الجزائر استرجعت أدوارها الدبلوماسية والسياسية في إفريقيا، خاصةً في لقاء القمة الإفريقية الأخيرة، التي انعقدت في أديس أبابا بإثيوبيا، حيث دعمت صندوق التضامن الدولي لإفريقيا بمليار دولار، كما قامت بتفعيل المناطق الحرة، وهي 15 منطقة للتبادل الحر بين الدول الإفريقية ودعمها في مواجهة الإرهاب في مناطق الساحل، لتشكيلها تهديدات مزمنة للتنمية والاستقرار والأمن بالمنطقة.
جيشها الثالث عربياً والثاني إفريقياً
الجزائر اصطحبت مع رؤيتها وفعلها الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي رؤية عسكرية، لا تخلو من أبجديات نضالها الثوري، فالجيش الشعبي الوطني الجزائري وريث جيش التحرير الوطني، الذي حرر الجزائر من الاستعمار الفرنسي، وما تضمنه من تاريخ في دعم قضايا التحرر والقضايا العادلة في العالم، ومشاركته في الدفاع القومي العربي المشترك.
كما شارك في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973م، ومشاركته في قوات حفظ السلام الأممية في الأزمات، ويتمتع بالعمق الشعبي من خلال الخدمة الوطنية لكل أبناء الجزائر، والمنهجية الاحترافية في التكوين والتدريب والتسليح، ويحتل الترتيب الثالث في الجيوش العربية، والثاني إفريقياً، كما يحتل الترتيب 26 عالمياً، وفقاً لموقع "غلوبال فاير باور".
الجيش الجزائري يعتمد منهجية عدم الانحياز، وهذا ما صرح به قائد الأركان الجزائري الفريق سعيد شنقريحة، لدى كلمته أمام قادة الوفود العسكرية الأجنبية، ويحرص على الدفاع عن مصلحة الجزائر ووحدتها الترابية، وغيور على سيادتها في الأوضاع المتقلبة والمرتبكة في العالم.
في حرب روسية أوكرانية أكدت المؤسسة العسكرية الجزائرية أنها ليست منحازة لروسيا، كما أنها ليست على خلاف مع الغرب، خاصةً الولايات المتحدة الأمريكية، وما سبق من منهجية مع الحلول السياسية للأزمات التي يتبعها الجيش الجزائري.
لقد عمد الجيش الجزائري منذ أكثر من 20 عاماً على تطوير إمكاناته وقدراته العسكرية في كل المجالات، وعمل على توفير الجاهزية باستمرار لمختلف وحداته القتالية العسكرية، ويمتلك أحدث التكنولوجيات العسكرية، ولديه الخبرة الأمنية والعسكرية في محاصرة الجماعات المسلحة والجريمة المنظمة، ما جعله شريكاً مهماً، وحليفاً استراتيجياً في محاصرة تلك الجماعات بمنهجية وتنسيق مشترك، وقد حققت الجزائر في هذا الاتجاه نتائج أقرت بها جيوش العالم، منها المؤسسة العسكرية الأمريكية وغيرها.
لقد توجّه الجيش الجزائري لتحقيق التنمية والأمن في دول الساحل، خاصةً بعد الاتفاق العسكري مع دولة "مالي"، في مواجهة الجماعات المسلحة، وفلولها في شمال "مالي"، بعد أن عجزت المؤسسة العسكرية الفرنسية في المهمة الأمنية والعسكرية في منطقة الساحل، خصوصاً عملية "بارخان"، ومن قبلها عملية "سرفال"، حيث وصلت إلى طريق مسدود، ما جعل شعوب وأنظمة المنطقة تتذمر من الجيش الفرنسي وتواجده، وتتهمه بالتواطؤ مع الجماعات الإرهابية.
إن الجماعات المسلحة تكاثرت وازداد عددها وانتشرت رقعتها في منطقة الساحل والصحراء، بالإضافة للنزاعات القبلية والإثنية في وجود القوات الفرنسية في تلك المنطقة، بخلاف الجيش الجزائري الذي يحتفظ بعلاقات مميزة مع جيوش دول الساحل من خلال تبادل الخبرات، والتنسيق وتبادل المعلومات الاستخباراتية والأمنية، وكذلك مشاركته للتدريب العسكري لجيوش دول الساحل، وإمدادها بالعتاد العسكري، وهناك أيضاً صفقات تسليح من جهة الصناعات العسكرية الجزائرية، خاصةً النقل العسكري مع موريتانيا ومالي.
زيارة وفود عسكرية عربية وغربية للجزائر
لقد أدركت المؤسسات العسكرية لكثير من الدول مدى قدرة الجيش الجزائري على توفير وتحقيق الاستقرار والأمن في حوض البحر الأبيض المتوسط، ودول الساحل بإفريقيا، والصحراء الكبرى، وهي منطقة ثروات طبيعية غير مستغلة تمام الاستغلال، وبعضها غير مستكشفة، ما جعل كثيراً من الدول الكبرى في أمس الحاجة لأن تكون هذه المناطق تتمتع بالأمن والاستقرار، وتحجيم دور الجماعات المسلحة والجريمة المنظمة فيها.
لذلك فإن الجزائر وجيشها أصبحا لاعباً إقليمياً موثوقاً به، وصاحب التزام وجدية وهذا ما جعل الكثير من الدول الغربية كالولايات المتحدة تتجه لزيارة الجزائر، حيث زار اللواء مايكل لونغلي، قائد قوات "أفريكوم"، ومن بعد الولايات المتحدة جاءت بريطانيا، حيث زار جيمس هيبي، قائد القوات المسلحة البريطانية الجزائر، ليفتح مجالاً للتعاون والتنسيق، بالإضافة للتعاون العسكري بين الجزائر وإيطاليا في مجال التصنيع العسكري، خاصةً في تصنيع المروحيات والغواصات.
ومن الدول العربية كانت المملكة العربية السعودية، من خلال زيارة العميد الركن يوسف بن عبد الرحمن الطاسان، والمكلف بالتعاون الدولي، حيث تم تأسيس لجنة عليا ثنائية للتعاون والتنسيق بين الجزائر والسعودية.
كذلك تم توسيع التعاون بين الجيش الجزائري والجيش القطري، من خلال زيارة قائد أركان الجيش القطري الفريق طيار سالم بن حمد بن عقيل النابت.
كذلك تمت زيارة الوكيل المساعد للإسناد والصناعات الدفاعية بوزارة الدفاع الإماراتية، اللواء مبارك سعيد الغافان الجابري، في إطار اللجنة المختلطة بين الجزائر والإمارات، المكلفة بالتعاون العسكري في مجال صناعات المركبات والمدرعات، وزيارة رئيس هيئة الأركان السودانية محمد عثمان الحسين، الذي جاء لبعث العمل البيني بين الجيشين السوداني والجزائري، لمواجهة تحديات الوضع الراهن في المنطقة الإقليمية، ومواجهة التحديات الأمنية المشتركة، حسب تصريحه.
الجيش الجزائري ينوع مشترياته العسكرية
أن علاقة الجيش الجزائري بالجيش الروسي علاقة معلومة ومعروفة وتاريخية، تعود إلى أيام الثورة التحريرية من عام ١٩٥٤م، ومساهمة الجيش الروسي في بناء وتسليح وتدريب الجيش الجزائري، لذا جاءت زيارة الأمين العام لمجلس الأمن القومي الروسي، ميكولاي باتروشيف، لتأكيد مدى قوة العلاقة مع الجيش الجزائري.
الجيش الجزائري مع قوة علاقته مع الجيش الروسي يتمتع باستقلالية، ويحرص عليها ويرفض أن تكون هناك قواعد عسكرية للدول كروسيا أو غيرها من الشركاء على التراب الجزائري.
عمل الجيش الجزائري على تنويع مشترياته من العتاد العسكري والسلاح، مع أن أغلب مشترياته العسكرية من روسيا بنسبة ٧٦%، خاصة السلاح الثقيل والنوعي والمتطور في كل المجالات البر والجو والبحر والدفاع الجوي والرادارات والاتصالات، وهذا ما جعل بعض الدوائر من اللوبيات في أمريكا تحاول حشد الرأي في الكونغرس ضد الجزائر، بحكم أنها تقتني الأسلحة من روسيا، وهذا يعتبر في نظرهم دعماً لروسيا في حربها على أوكرانيا.
إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل، بحكم أن إدارة بايدن لها رأي آخر، فالجزائر تعتبر لدى أمريكا شريكاً مهماً في استقرار المنطقة وتثبيت الأمن ومحاربة الجماعات المسلحة، وهذا ما يصرح به العديد من المسؤولين الأمريكيين بالخارجية والبنتاغون، وكذلك من خلال زيارتهم المكثفة للجزائر، وتأكيدهم على أن الجزائر حليف استراتيجي في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.
الجزائر في وضع جيوسياسي مهم من خلال عدم الانحياز واستقلالية القرار السياسي، وقوة الحضور، وفاعلية الأدوار، خاصةً مع التوتر الذي تشهده إفريقيا مع فرنسا، وتلاشي نفوذها في إفريقيا.
الجزائر تبرز كقوة ضامنة ومستقرة في محيطها، رغم ما يشهده العالم من تجاذبات، ويمكن للجزائر مستقبلاً أن تكون منطقة حرة ومستقلة ودافعة للحلول في الأزمات، ولها سوابق في ذلك، مثل تدخلها في الأزمة العراقية الإيرانية، وإريتريا، وإثيوبيا، والأزمة الأمريكية الإيرانية، ما يعرف بأزمة الرهائن، وكذلك الحرب الأهلية في لبنان.
كذلك اتفاقيات الشمال المالي، وقد زارها مؤخراً وفد لمختلف الأحزاب والقبائل من الشمال المالي، التقوا برئيس الجمهورية الجزائرية، وشكروا الجزائر على مجهوداتها الكبيرة في التصالح والمصالحة وحل الأزمة المالية.
كل الوفود العسكرية الغربية والعربية في زيارتها الأخيرة للجزائر كان لديها لها ما تحتاجه لأمنها من الجزائر، بحكم أن الجزائر وجيشها ومواقفها الدبلوماسية من مختلف القضايا العالمية والأزمات أعطت لهم تلك الأريحية السياسية والدبلوماسية والأمنية، في بحثهم عن فضاء تحل من خلاله الأزمات أو تقلل فيه من حدة التوترات بينها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.