قبل أيام قليلة انتقل إلى رحمة الله تعالى الأستاذ حسن جونتر "1948-2023″، وهو أستاذ ألماني تحول إلى الإسلام بنفسه وبناء على تأملاته الخاصة في بداية عشريناته، وقد أحب هذا الرجل الإسلام كما أحب مصر وأهلها؛ حيث مكث فيها أكثر من ٢٠ عاماً متواصلة عكف فيها على العمل في التدريس في كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر والترجمة والتأليف ومراجعة الرسائل العلمية المكتوبة باللغة الألمانية، وكذلك فعل مع بعض الكتب التي ألفها بعض زملائه، كما عمل مديراً لقسم ترجمة الفتاوى إلى الألمانية بدار الإفتاء.
أكتب هذا المقال لأقص عليكم ما لمسته من هذا الرجل عموماً وبعض المواقف الطريفة والعلمية التي جمعتني به خصوصاً. أكاديمياً لم يحصل الرجل إلا على شهادة الليسانس في العلوم السياسية إن لم تخني الذاكرة، لكنه كان على معرفة ترقى به إلى درجة الخبير اللغوي؛ بل وعالم اللغويات، وقد كان يكره أن يناديه تلامذته بلقب دكتور لأنه لم يحصل على الدكتوراه؛ فقد كان متسقاً مع ذاته في هذه النقطة اتساقاً واضحاً.
المثير في شخصية "حسن جونتر" أنه كان من الذكاء والجرأة لدرجة اكتشاف تناقضات العهد الجديد من الكتاب المقدس والتعرف على الإسلام بصفته الدين الحق وهو في مطلع العشرينيات فقط، وهو ما دفعه إلى تكريس حياته العملية وقريحته العلمية الألمانية الفانية في العمل لخدمة الإسلام واللغة الألمانية والعربية على السواء، وكنتيجة منطقية كان مولعاً بأحداث التاريخ الإسلامي الحضاري، والحق أنه رغم غضبه من رد فعل أسرته على تحوله إلى الإسلام، وهي قصة لا أريد سرد تفاصيلها هنا، لم يكن كارهاً لألمانيا كما يفعل كثيرون تحولوا إلى الإسلام فلفظتهم الأسرة والمجتمع، بل على العكس كان معتزاً فخوراً بأصوله الألمانية البروسية.
وبذلك الموروث العلمي الذي أنتجته القريحة الألمانية وأهدته إلى البشرية كلها، كما كان يعرف مكانة وطنه بين الأمم ودوره في عالم الأمس واليوم، إجمالاً كان الرجل ألمانياً مسلماً مكث أكثر من ٢٠ عاماً متواصلة في مصر فأحبها رغم نقده اللاذع لحال أهلها نقداً نابعاً في الأساس من حبه لأناس لو لم يكن لهم الود لما مكث بينهم ٢٢ عاماً لم يرجع فيها إلى وطنه ولو مرة، فقط عاد مريضاً يتلقى العلاج فوافته المنية، وظني أنه لو وجد منظومة صحية جيدة في مصر لربما اختار أن يدفن في رحاب الأزهر الذي أرى أنه قدم له الكثير حباً فيه وفي أهله، ولم يتلق عن مجهوده شيئاً يذكر، حتى كتبه كان يبيعها بأقل من تكلفتها بعد طبعها بشكل يليق ويهدي الباقي منها لتلاميذه وأحبائه.
مما تجدر الإشارة إليه هنا أن الرجل كان صوفي المنزع؛ فوفقاً لمن اقتربوا منه أكثر كان يقضي أوقاتاً طوالاً في تأمل الكون والظواهر الطبيعية والنجوم لسبب يرجع ربما إلى دراسته لعلم الفلك.
بالتالي لم تكن المادة أكبر همه، ولو كانت لاستطاع- هكذا أزعم- في فترة إقامته في مصر أن يجني أموالاً طائلة.
كان "جونتر" يذهب إلى الجامعة مرتدياً ملابس تبدو غريبة على سكان القاهرة لم نعهدها حتى في الأجانب الذين يفدون إلينا، ملابس اتضح مع الوقت انتماؤها إلى الثقافة البروسية التي كان يعتز بها.
وكان يختار من التلاميذ أنيساً له في سكنه دون أن يطلب منه مقابل السكن، كما كان يتحدث لغة ألمانية غاية في الفصاحة، وكانت لغة الكتابة عنده أفصح وأفصح، ربما لتأثره بالأديب الألماني صاحب نوبل "توماس مان" "1875-1955″، حيث ذكر هذا بنفسه ذات مرة، والواقع أن أسلوبه في الكتابة كان متأثراً أشد التأثر بأسلوب الأدباء حتى رأى كثير أن كتاباته لا تحتوي على علم بقدر ما تحوي لغة بديعة ومعقدة في نفس الوقت. كما كان يتحدث اللغة العربية جيداً.
كل هذا جعل من "جونتر" شخصية مثيرة بالنسبة لي فقررت التعرف عليه عن طريق كتبه التعليمية التي جذبتني لغتها جداً كوني طالباً في قسم الآداب مهتماً بلغة الأدب الألماني. كنت أحصل على كتبه الجديدة أولاً بأول من تلاميذه المقربين فأقرأها وأستفيد منها ما أمكنني، وحضرت له محاضرة مع طلبة قسم الإسلاميات فلم تعجبني طريقة تدريسه فاكتفيت بقراءة ما يكتب.
ويوماً مررت بالقرب من قاعة كان يدرس فيها فوجدته يقف مرتدياً ملابسه البروسية واضعاً نظارة شمس وناظراً من شباك من فناء الطابق الثاني إلى السماء غارقاً في صوفيته يحسبه المار موجوداً معنا بجسده فقط بعيداً بروحه ووجدانه كل البعد عن عالمنا، فألقيت عليه السلام وقلت له: هل تسمح لي أن أطرح سؤالاً؟ فأجابني بغلظة يعرفها من عرفوه قائلاً بالعربية: الأسئلة في المحاضرة.
فعدت إلى سكني غاضباً وقررت أن أنتقم منه بلغة تشبه لغته المعقدة؛ فكتبت فيه جملة ألمانية معلبة طويلة فيها من الذم والغضب ما فيها، ومنذ هذا الحين وأنا أتجنب الاقتراب منه لما بدا من اندفاعه في التعامل مع الغرباء، لكني لاحقاً عرفت الظروف التي أوصلته إلى هذه الحال وتراجعت عن جملة القدح المعلبة تلك.
ودارت الأيام وسافرت إلى ألمانيا مهاجراً ولم يخطر ببالي أني سأعود يوماً إلى "حسن جونتر" لأستعين به في تدقيق رسالتي للماجستير صغيرة الحجم لغوياً. فكان لقائي به الأول والأخير عام ٢٠٢٠ في منزله بمدينة العاشر من رمضان للاتفاق على المراجعة اللغوية، وقد عرضت عليه جمع مؤلفاته كلها خوفاً من ضياع محتمل بعد رحيله عن دنيانا، فأخبرني بعكوفه على ترجمة لمعاني القرآن كان حتى حينها قد أنجز منها ما يربو على النصف، على حد قوله، والمثير هنا أن الرجل من البداية له نظرية جديدة في ترجمة التنزيل الحكيم تتفادى بعض أخطاء الترجمات السابقة من ناحية كما تبدع جديداً من ناحية أخرى. كان هذا آخر ما سمعته منه.
الآن وقد رحل حسن عن عالمنا لا يسعني إلا أن أدعو له بالرحمة والمغفرة وأوصي محبيه والمقربين منه بالعناية بتركته العلمية وإعادة طبعها ولو على شكل صدقة جارية على روحه تماشياً مع زهده الحياتي الذي عهده الناس فيه والبحث عما أنجزه من ترجمة لمعاني التنزيل الحكيم، ونشرها لعلها تكون شفيعاً له يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.