إننا نستيقظ كل صباح ونحن محملون بالكثير من الأعباء، ما بين خيبات الماضي وترقب الحاضر وقلق المُستقبل؛ لنجر فيما بعد أجسادنا وراءنا، محاولين أن نفوق من سكرتنا، بحمل كوب من القهوة أو الشاي نظن به أنه يمكننا استعادة توازن عقولنا وسط كل ما نتعرض له كل صباح من كل يوم.
نذهب إلى العمل ونحن نتطلع إلى يوم لا يشبه البارحة في شيء، عسى أن يأتي مُختلفاً؛ ليُجيب عن كل تلك التساؤلات التي تثقل حقيبة عقولنا.
عندما أصل إلى عملي كل صباح لا أقوى على نطق الكلام، آخذ ساعة أو أكثر حتى أستطيع التعامل مع من حولي، تلك العادة التي ورثتها عن أبي، أتذكر عندما أخبرت أمي بأن زملائي في العمل يظنون أنني لا أطيقهم عندما يلقي عليّ أحدهم السلام في الصباح، فأنظر إليه بابتسامة باهتة وأهز رأسي غير مُجيب.
وإن أجبت تخرج مني الكلمات ثقيلة وصامتة، لا يسمعها أحد غيري، لتربت أمي على كتفي قائلة: لا عليك لقد أخذت عادة أبيك، منذ تزوجت أنا وهو منذ أكثر من ثلاثين عاماً، أشرقت فيه شمس الصباح آلاف المرات دون أن يقول لي ذات مرة: صباح الخير. وعندما تمعنت حديث أمي لحظت أننا بالفعل في بيتنا لا نقوى على أحاديث الصباح ونأخذ الكثير من الوقت حتى ينطق أحدنا بكلمة، لكني أستغرب أمي، كيف لها أن تتحمل كل هذه المعاناة في كل صباح، لا بد أنها اعتادت الأمر.
لكن جاء هذا مُنافياً لقول أحدهم لي عندما أخبرني مرة أنني سأتوقف عن تلك العادة بمجرد الزواج، موضحاً أن النساء ثرثارات، وإن فكرت مجرد التفكير بعدم مجاراتهن في الحديث، سيكون يوماً "مطلعتلوش شمس ويوم نكد عليك"، ضحكت على كلامه وقلت له: "ما تقلقش.. مش هتجوز أنا مش غاوي وجع دماغ بتاع المتجوزين يا عم".
لكن بمجرد أن عبرت عمر الثلاثين، وأظن أنه لم يوجد أحد يقابلني إلّا وقال لي سائلاً: متى ستتزوج؟
أعلم جيداً أن الأمر لم يخص الفتيات اللاتي يظن المجتمع أن هناك سناً مُعينة لا بد أن يتزوجن فيها، أو أن قطار الزواج سيرحل ويتركهن في المحطة وحدهن، لكن لم أتخيل الأمر هكذا أيضاً بالنسبة لنا نحن معشر الفِتيان، هذا الأمر الذي أوقفني كثيراً لأجد إجابة عنه، فرُحت أطرح أسئلتي على من حولي محاولاً معرفة السبب.
قال لي صديقي الذي يشبه طباعي ذات مرة: "لو اتأخرنا أكتر من كده مش هنلاقي اللي ترضى بينا، وفرصنا هتقل مع الوقت".
أخبرني زميلي بالعمل: لا تتزوج يمكنك الآن فعل ما يحلو لكَ في أيّ وقت دون التفكير في شيء آخر.
حدثتني صديقتي وهي تؤكد: عليك أن تتزوج، أنت تفعل أشياء كثيرة، تسافر، تسهر، تذهب إلى السينما، كل هذه الأشياء التي تفعلها لا بد على إحداهن أن تشاركك كل هذا الجنون. وتقول لي أمي: تزوج قبل أن تكبر ولا تجد امرأة تحتمي بحضنها في ليالي الشتاء البارد.
يقول لي أبي: أريدك أن تتزوج كي تنجب طفلاً تستند عليه عندما يشيخ بكَ الزمن، وعندما سألته هل أعد أنا سنداً لك؟ قال لي: لا، فقلت له: ولمَ تريد مني أن أتزوج؟ قال: لأنها فطرتي كأب، لكن سأخبرك سراً لو أنك شخص غريب عني لقلت له: "إوعى تتجوز".
تبدو فكرة الزواج داخل مُجتمعنا العربي سطحية أو تُختصر عن الأشياء المادية والدوافع الجنسية، كل هذه الأشياء التي خرجت تطفح على السطح داخل منصات التواصل الاجتماعي، من خلال "التريندات، والكوميكس، والتعليقات السخيفة"، وغيرها من الأشياء التي جعلتنا نحن معشر الشباب نهرب خوفاً من فكرة الزواج.
الجميع يُخبرني بالكثير من الأفعال التي عليّ القيام بها، لكن لا أحد فيهم يعلم أنّي أعاني خوف الوحدة، وأخشى ألم الفقد، وأتفادى الحنين الكاذب، وأتجنب الأمل الزائف، وأرتعب من الهجر بعد التعلق.
تبدو فكرة الزواج داخل مجتمعنا العربي مُخيفة، لم يعد الأمر بسيطاً كما كُنا نستمع إلى كل هذه الأشياء التي دفعتنا نفكر بأن نكمل حياتنا بعيداً عن مسؤوليات الآخرين، حتى يصل بنا العمر لنكتشف أننا كُنا نتفادى خوفنا بوحدتنا.
نحن نحتاج إلى الآخر لأولئك الذين يشاركونا الحياة بما تحملهُ لنا، مهما خلقنا عادات للعيش دونهم، وتظاهرنا وتحدثنا عن قدرتنا الهائلة على العيش وحدنا في مواجهة الحياة دون مشاركة أحدهم لنا هذا.
كل هذا هراء، مجرد أكاذيب ومبررات خلقناها لإقناع أنفسنا بذلك، لكننا ندركُ ونعي تماماً ما بداخلنا واحتياجنا الدائم للآخر، مهما حاولنا مصادقة الوحدة، فلا يمكننا أن نتغلب على صراعات الحياة دون أن نجد مَن يشاركنا هذا؛ لنخوض معه هذه الحرب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.