تعيش منطقة الشرق الأوسط اليوم حالة من الانحطاط الحضاري، وصدقت مقولة هيغل عن انتقال الحضارة من الشرق إلى الغرب تشبيهاً بحركة الشمس، توقفت حركة الصحوات الإنسانية المتعلقة بالإنتاج المعرفي والفكري والتقدم العمراني والتكنولوجي، إضافةً إلى تطوير العلوم الإنسانية بكل جوانبها السياسية والاجتماعية وغيرها، وللأسف فلقد حلّ مكانها ثقافة الدمار والدماء، كيف تحول ذلك الشرق الذي سحر المستشرقين والمستعمرين، والذي كان منارة العالم وصدّر العلوم الفلسفية والفقهية وعلم الكلام والمنطق والتسامح، إلى بؤرةٍ يطغى عليها عامل الانقسام والطائفية والتفرقة؟ إن السؤال الذي يطُرح دائماً في الأوساط الفكرية والسوسيولوجية: هل الدين هو السبب في ذلك التخلف الحضاري الحاصل؟ هل توقف النقل والوحي الإلهي عن تقديم ما هو خيرٌ للإنسان؟
يعتقد البعض أن العقل والعلمانية التي طرحها وأسسَ لها سردية تاريخية معينة تتناول نشوء الكون ونظرية التطور، أصبحا قادرين على أن يحلا مكان الشرائع السماوية التي أصبحت غير صالحة بنظرهم، ولكن علينا أن نسأل أنفسنا: هل الدين هو المسؤول عن تلك النكسة الحضارية التي نعيشها، وتحويل العقل إلى عقلٍ جامد، وإفشال مشروع تأسيس الدولة الحديثة بالمفهوم الغربي والحداثي؟
إن الإجابة عن هذا السؤال سوف تسير بنا إلى الطريق الصحيح والانطلاق نحو الحلول المنطقية لتلك المعضلة، ولكن لا بد لنا أن نُطلق معركة المصطلحات والتعريفات الصحيحة وتفسيرها بشكلها الصحيح أيضاً، فلا يمكن أن نخوض معركة الإصلاح والصحوة والتجديد دون أن نعيد اصطلاح المفاهيم العامة وتبيان الحقائق كمرحلة أولى وأساسية.
إنه من الواجب علينا أن نميز بين الدين والتدين، بين المذهب والتمذهب، بين الطائفة والطائفية، لا شك أنها قضايا متداخلة فيما بينها، حتى وصلت الأمور إلى وضعٍ غير قابل للتفكيك والتحليل، وهذا بسبب طبيعة التداخل، جاء الحداثيون والعلمانيون كي يطرحوا الأطروحات الغربية كخلاصٍ لنا في هذا الشرق الملتهب، ولكن قبل الرد عليهم، علينا تشخيص المرض، فلا يمكن معالجة المريض إلا إذا قمنا بتشخيصٍ علمي وبعيدٍ عن العقل المتحيز، إنما بعقل الرجل الإسكيمو، في الظاهر ودون أي دراسة سوسيولوجية وأنثروبولوجية، سوف نحكم على أن ظاهرة الدين هي المسؤولة، ولكنه حكمٌ خطأ بكل المقاييس، وسوف نثبت ذلك لاحقاً. إن المسؤول الأول عن هذا الانهيار الحاصل هو الطائفية التي لها تعريفها الخاص.
إن الحداثة الغربية نفسها هي من جاءت بتلك الطائفية السياسية إلى بلادنا، من يقرأ تراثنا المشرقي والإسلامي الذي طغى على المشهد الحضاري لفترة طويلة من الزمن تقارب 1400 سنة، يدرك أن مصطلح الطائفية وتعريفها وسلوكها كان غير موجود في المشهد الاجتماعي والسياسي، ولكن هذه الظاهرة حديثة ومُستحدثة ومستوردة من الخارج، ولم تُعرف في تراثنا العربي وتاريخه الطويل، فهذه الظاهرة تم تصديرها من أوروبا التي عاشت لفترةٍ من الزمن صراعاتٍ طائفية بعد ظهور البروتستانتية ونشوء اللوثرية والكالفينية، ولكن بعد ولادة مفهوم الدولة الحديثة والدولة القومية، أنهت أوروبا تلك الظاهرة، وانتقلت إلى الشرق، فهذه الظاهرة ليست ظاهرة اجتماعية كما يعتقد البعض، إنما هي ظاهرةٌ سياسية تحولت وتوغلت فيما بعد إلى كل نواحي الحياة الإنسانية، وأصبحت ظاهرة اجتماعية كنتيجةٍ لا كسبب، ثم تطورت وتوغلت أكثر في كل القطاعات والمؤسسات العامة والخاصة، حتى وصلت إلى المؤسسة الأم وهي العائلة، وكوّنت نظاماً معرفياً أحادياً مشوهاً.
يعود أسباب توغلها في المنطقة بسبب تكوينها سرديتها الخاصة التي تحمل المظلومية كأُسسٍ سوسيولوجية، كانت البداية عندما تحوّلت الجماعات الدينية في كنف الدولة الإسلامية إلى جماعاتٍ تسعى إلى الاستقلال السياسي عن المنظومة السياسية التي كانت تحكم آنذاك، لقد نجحت أوروبا في خلق نظام الحماية الدولية للأقليات في جسد الدولة العثمانية، ثم برز النظام الإقطاعي الذي يمثل الأولغارشية السياسية حتى يومنا هذا التي تحكم جماعاتها، فهذه الجماعة بحجة حماية نفسها ضد الآخرين، أنتجت سرديتها الخاصة التي تحمل خطاباً في طياته مظلومية وتاريخ مُتخيل وأساطير تُظهر أنها معرضة للخطر الوجودي، وخطاب سيكولوجي يهدف إلى جعل تلك الجماعات في حالة ترهيبٍ وخوفٍ من الآخرين، واللجوء إلى من يحميها وهي الطبقة الأوليغارشية، في الوقت نفسه إن تلك الطبقة نفسها تتعامل مع بعضها غير مكترثة بالانتماء الطائفي لتحقيق مصالحها الضيقة والفلسفة النفعية من أجل بقائها ووجودها.
خلقت الطائفية السياسية أو هذه الظاهرة الجديدة عناصر قادرة على استمرارها، لقد كوّنت لنفسها ديمقراطيتها الخاصة، وهي ديمقراطية الطوائف، وفي السلطة التنفيذية الديمقراطية التوافقية التي تعزز مفهوم التحاصص، ثم الهويات الطائفية كسلوكٍ وليس كانتماءٍ وهويةٍ، وأصبحت الهوية الطائفية طاغية على الهوية الوطنية التي لم يعد لها وجود أصلاً في ظل ذلك الاحتقان.
أما في الاقتصاد، فإن تلك الجماعات تحتاج إلى عصبٍ اقتصادي لاستمرار قوتها وسيطرتها، فتشكل مفهوم اقتصاد الطوائف، والذي يعزز عملية التحاصص التي أنهت الاقتصاد الوطني، وأصبح لكل طائفة اقتصادٌ خاص بها ووسائل إنتاجها الخاصة.
بعد أن قُسم الاقتصاد والديمقراطية والهويات جاء دور التقسيم البيروقراطي والإداري وتقسيم جهاز وجسد الدولة إلى مؤسساتٍ، كل واحدةٍ منها تحمل هوية طائفية خاصة هدفها تعزيز حضور تلك الجماعة وتعزيز المنفعة الخاصة، ولكن الأخطر في ذلك الموضوع هو الأجهزة الأمنية والقضائية، وهما عصب الدولة، ففي ظل الطائفية السياسية فإن الأوليغارشية السياسية تحتاج إلى تلك الأجهزة لحماية جماعتها الخاصة أمنياً وقضائياً.
بعد هذا السرد السريع نستطيع أن نقول إن الدين وشريعته براءٌ من ذلك السلوك الدوغمائي والعدائي، إن التدين هو حالةٌ إيمانية بالعقيدة، أما الطائفية فهي حالةٌ تقوم على تقديس الزعامات وليس لها علاقة بالعقيدة والإيمان، وللحقيقة فإن هذه الظاهرة هي المرض التي تعيشه أمتنا اليوم، وهذا المرض لم يكن ضمن تراثنا ولا نتاج حضارتنا.
واجبٌ علينا جميعاً مكافحة تلك الظاهرة الخطيرة، إنها ليست كما يُصور لنا أنها ظاهرةٌ اجتماعية، إنما هي ظاهرةٌ سياسية تم استيرادها من الخارج وإدخالها زوراً وبهتاناً إلى تراثنا وحضارتنا، فحوّلت تلك المنطقة التي تشبه اللوحة الفسيفسائية إلى لوحةٍ تحمل التناقض القاتل الذي يسعى كل طرفٍ فيه للتسلح بسرديته الخاصة والسيطرة على مقاليد الحكم من خلال الأدوات المذكورة. ولكن معالجة ذلك المرض يبدأ بتوضيح الحقائق التاريخية لتلك الظاهرة، وأن سرديتها ما هي إلا خرافات تم تصنيعها وتطويرها كي تحمي نفسها وتحمي مصالحها الضيقة، فما هي إلا ظواهرٌ مُتخيلة غير واقعية، والمعالجة تقوم على بلورة هوية وطنية لا تعادي الانتماء الطائفي والهوية الدينية والثقافية، سوف نحاول في المقالات الأخرى طرحها والتكلم عنها بإذن الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.