منذ بدء التاريخ احتاج الإنسان للخيال، ليوازي حياته الواقعية أحياناً أو ليتقاطع معها، وفي بعض الأحيان ليجعل خياله في اتجاه مُعاكس لحياته الواقعية الصعبة. ومنذ البداية حينما عُرفت الأسطورة باعتبارها شيئاً راسخاً في الوعي الجمعي تخص البشر كلهم، بلا تصنيف، انبثقت الرغبة في ذهن كل إنسان باختلاف زمانه ومكانه لصنع أسطورته الخاصة، ومن هنا جاءت الفانتازيا!
ما هي الفانتازيا؟ سؤال الخيالي الأسطوري
من حيث اللغة نجد لكلمة فانتازيا أصولاً متجذرة في اللغات القديمة. في كتابها "فانتازيا تولكين" تعرض لنا الكاتبة والباحثة المصرية، عبير عواد، رحلتها الطويلة في البحث عن أصل الكلمة، وتعرض لنا الفوارق المتعددة بين الفانتازيا والأسطورة، بالإضافة لعرضها لعوالم الباحث اللغوي وكاتب الفانتازيا الأبرز تولكين.
ما هي الفانتازيا؟ يبدو السؤال صعباً واجابته تخلط ما بين أصلها اللغوي الذي عنى "القدرة على خلق الصور" في اللغة اليونانية، وبين ما تعنيه فعلياً على أنها حكاية مستمدة من التراث والفلكور الشعبي الذي يتطور مع مرور السنين، ويزيد أو يقصر مع الحذف والإضافة؛ لتُلائم زمانها ومكانها الحاليين. تقول د. عائشة الحكمي، أستاذ مساعد اللغة العربية والأدب الحديث بجامعة تبوك، عن لفظة الحكاية أنها نص أدبي لا نعرف مؤلفه؛ تستند لوقائع حدثت بالفعل واكتسبت نوعاً من البطولة، أو خيالية يتم نقلها من جيل إلى جيل شفهياً. ومع الوقت تطورت حاجة الإنسان للخيال، وخلق أساطيره الخاصة وكتابتها وتجسيدها على شاشات السينما والتلفزيون كما في وقتنا الحالي، وننتقل لمرحلة وسيط مختلف هنا، ومن الحكاية الشفهية إلى الحكاية أو الرواية المكتوبة، ليتصدر عالم سيد الخواتم the Lord of the Rings في أذهان جميع من عاصروا إطلاقها سينمائياً في مطلع الألفية.
من هو صاحب سيد الخواتم: مؤسس أدب الفانتازيا الحديث
على الرغم من انطلاق أدب الفانتازيا وازدهاره مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فإن هناك الكثير من أعمال أدب الفانتازيا لم تحظَ بانتشار لافت، والبعض منها في الأساس كان موجّهً للأطفال، بالإضافة لعدم انتشار اللون الفني ككل في أغلب بقاع العالم، لأنها حكايات مبنية على أساطير وحكايات شعبية، أي إن هناك أرضاً صلبة سابقة لها، ودور كاتبها بالإضافة إليه أو تزيينه بمزيد من الخيال. يقول ويليام بتلر ييتس الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1923 عن الفن الشعبي إنه التربة الخصبة التي نبتت منها كل أشكال الفنون. لذا، فإن انتشار هذا النوع من الأدب كان مرتبطاً بوجود حكايات شعبية منتشرة في أرضه، مثلما حدث في أيرلندا والدنمارك وفنلندا، أو في قرون سابقة للقرن العشرين، حينما قامت مجموعة من جامعي الحكايات في كل بلد بجمع الحكايات الشعبية وتحويلها كنمط أدبي، كما فعل "شارل بيرو" الكاتب والشاعر الفرنسي الذي ذاع صيت حكاياته في الصالونات الثقافية بباريس في منتصف القرن السابع عشر، أو الأخوان الألمانيان جاكوب وفيلهلم جريم المعروفان باسم الأخوين جريم اللذين طافا ألمانيا لجمع الحكايات الشعبية، وتم نشر أول كتبهما معاً في عام 1812.
وبتطور الزمن تتطور الرغبة بداخل جون رونالد رويل تولكين، المولود 3 يناير عام 1892 في جنوب إفريقيا بولاية "أورانج فري – orange free state" حيث كان يعمل والده مديراً لأحد البنوك الإنجليزية. في كتاب الكاتبة المصرية عبير عواد نجد بحثاً شاقاً عن أصل كل كلمة، وتقصياً حقيقياً ودراسة جادة لعالم تولكين الذي يتجاوزه الكتاب؛ ليشمل دراسة كاملة حول الفانتازيا قبل عالم تولكين السخي وبعده، الذي لم ينتهي بعد موته؛ بسبب سعي ابنه كريستوفر لنشر الأعمال المنتهية لوالده بعد وفاته أو تحرير الأعمال التي كادت أن تنتهي قبل رحيله. تتبع الكاتبة في "فانتازيا تولكين" خطوات صاحب العالم الفانتازي الأشهر منذ ولادته، مروراً بطفولته الصعبة كطفل عاش يتيم الأب، ومع أم منبوذة من عائلتها لأسباب دينية. كل هذه الصعاب أثرت في تولكين وانعكست على عالمه المبني على الخير والشر كمتضادين. ورغم نشر الرواية كاملة على أجزاء خلال أعوام 1954 و1955، فإن تحويلها للسينما على يد المخرج بيتر جاكسون من 2001 إلى 2003 أحدث نقلة تاريخية في عالمي الأدب والسينما بشكل عام.
كيف انتشرت الفانتازيا: سؤال الخيالي والحقيقي
بالتتبع التاريخي يتضح لنا انتشار الفانتازيا من الحكايات الشعبية مجهولة المصدر، ومن ثم محاولات تجميعها وتدوينها وتضمينها في سياق أدبي، ومن ثم وضع أطر وقواعد محددة لها تضمن نسقه وسياقه، وتضمن خصوصيته حتى يتم التمييز بينه وبين أنماط أخرى تبعته وتشعبت منه. بتتبع السرديات نجد مراحل متعددة يُعد أبرزها أدب تولكين الذي تلاه العديد من الأعمال التي تتشابه في الشكل والمكونات، التي يبدو أبرزها لغير الباحث شخصيات الخير المطلق والشر المطلق، فإن ما أحدثه تولكين على صعيدي التأسيس والانتشار، دفعا الفانتازيا للأمام، وكذلك السينما فيما بعد حينما لاقت ثلاثية سيد الخواتم انتشارها الكبير مع بداية الألفية. كل هذا وأكثر ساهم في دفع العديد من الكُتاب لبداية رحلة السعي الخاصة بهم في خلق أساطيرهم الخاصة وعوالمهم المُتخيلة، سواء تلك القائمة على الخير ونقيضه الشر، أو العوالم التي تسرد القصة الفانتازية لتطور الشرير ومنحه مساحة أكبر لسرد قصته.
لماذا يُحب العالم فن الخيال: سر الانتشار في عصر السينما
بالنظر إلى السينما الأمريكية كمثال نجد آلاف الأفلام التي تدور في عوالم مُتخيلة، كلها عن تخليص الأرض من قوى الشر، أو لمحاولات النجاة بعدما يموت كل أفراد المدينة، أو الهرب من آكلي لحوم البشر ومصاصي الدماء الذين لا يتعدى وجودهم كونهم أساطير في بعض البلاد الأوروبية، كل هذا ما زال يجد رواجاً واسعاً في عالم السينما أو الأدب، رغم تصنيفات أدب التسلية أو السينما الهزلية. كل هذا يضع على المائدة سؤالاً: لماذا تنتشر العوالم الخيالية وتُلاقي رواجها الكبير؟ في الحقيقة فإن حاجة الإنسان للخيال ما زالت كما هي، سواء لمحاكاة الواقع في صور غير مباشرة للتخلص من ضغط الحياة العامة أو الخطاب التوجيهي أو لوجود مساحة أكبر للإبداع في عالم غير محكوم بالتقليدي أو المتوارث، بالإضافة للقدرة غير المحدودة على كسر الملل والتجريب والخلط بين الفانتازي والواقعي بشكل كبير، فيما عُرف مثلاً بالواقعية السحرية التي انتشرت في أدب أمريكا اللاتينية، الذي قام على نقل الواقع شديد الفقر والقسوة بإضافة لمسة غير حقيقية له، ما منحه القدرة للتخلص من عبئه الثقيل وقدرته أيضاً على الوقوع داخل أي زمان أو موقع جغرافي آخر. ومع الأخذ في الاعتبار تشعب أدب الفانتازيا وخروج العديد من العوالم من خلاله كأدب الخيال العلمي مثلاً، والذي ساهم بتطور التكنولوجيا بشكل كبير لاعتماده على حقائق ونظريات حقيقية بالفعل. في محاولات المقاربة والمقارنة بين الفانتازيا في شتى البقاع تسرد عبير عواد آراء ونظريات النُقاد حول تعريفهم للفانتازيا، فتنقل عن كتاب "الحكايات الفانتازية بفرنسا" للناقد "بيير جورج كاستكس" تعريفه للفانتازيا:
"الفانتازيا أسلوب ظهر في سياق اجتماعي تصويري يُقدم برمزية ما؛ ليقابل العقلانية والوضعية كأسلوب في الكتابة". أما البروفيسور "جون ستيفنز" المحاضر بجامعة "macquarie" بولاية سيدني الأسترالية، فيقول في مديح الفانتازيا:
"واحدة من فوائد الفانتازيا أنها تعطي القارئ الفرصة ليرى العالم بطرق مختلفة، فإنها تأخذ موقفاً افتراضياً وتدعو القارئ لأن يربط بين هذا الموقف الخيالي وواقعه الاجتماعي الخاص".
كل هذا وغيره ربما كان دافع العديد من الكُتاب فيما بعد تولكين وعالمه الخاص. وهو أيضاً ما ساهم في رواج ونجاح أعمال فانتازيا مهمة أمثال "صراع العروش – Game of thrones" الذي امتد لثمانية أجزاء، والذي يُعد أحد أبرز أعمال الكاتب جورج مارتن، وأبرز إنتاج شبكة HBO العالمية، وهو مسلسل قائم على صراعات الحُكام واستخدام السحر وقوة التنانين في الحروب والعملاقة وغيرها من أساسيات الفانتازيا، وهو ما دفع بإخراج عدة أعمال أخرى من نفس عالم الكاتب مثل بيت التنين – House of the dragon أو أعمال أخرى قيد التحضير. انتشار الفانتازيا ربما ارتبط لحاجة الناس للتخلص من عبء الحياة الصعبة، والهروب منها لعوالم أقل وطأة، وربما يكون عالم هاري بوتر لمؤلفته ج. ك. رولينغ واحداً من أبرز هذه العوالم، الذي تعلق به الناس باعتبار بطله ولداً صغيراً يخطو خطواته الأولى في مدرسة السحر الأشهر. لا يمكن التخلص من أثر العوالم الفانتازية باعتبارها متجذرة في كل المواريث الشعبية، ولا يمكن التخلي عن الحاجة لها باعتبارها في بعض الظروف والنطاقات الجغرافية وسيلة لمحاكاة واقع ثقيل، يكاد أن يكون التخيل فيه جريمة تدفع بصاحبها إلى العقاب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.