في مسلسل الزير سالم وبعد رحلة طويلة دامت أربعين عاماً في معركة البسوس، حقق الزير سالم ما أراد وأخذ بثأر أخيه، لكن بعد نهاية الحرب كان يُعَدِّدُ خسائره طوال الأربعين عاماً، نعم حقق ما يريد، ولكن في الطريق فقد أخاه كليب، وابن عمه وصهره همام، وابني أخته شيبان وشيبون.
في المعركة الأخيرة فقد صديقه امرأ القيس بن أبان، وكُسِر ظهره، وبعدما فقدت ابنة أخيه عقلها، وأخوها الآخر انفصل عن عمه، ظل الزير سالم يعدِّد هذه الخسائر أمام أخته الزهراء، لتجيبه بمقولة خالدة ليست للزير سالم فقط، بل لكل من كانت تضحياته أكبر من هدفه قائلة: " هل كان الثأر يستحق كل هذه التضحيات؟"
"ميسي" وجائزة أفضل لاعب
بعد حصول ميسي للمرة الثانية في تاريخه، على جائزة فيفا لأفضل لاعب في العالم، لكن هذه المرة طعم الجائزة مختلف، فلقد حصل عليها، إثر فوزه برفقة منتخب بلاده بالكأس الأغلى بين الكؤوس بسيناريو مجنون.
لو كان أحد الكتاب السينمائيين يكتب هذه الرحلة ما كان ليكتبها بهذه الطريقة، جنون لم يتخيله أحد، وصعوبات لا يقدر على تحملها أعتى الفرسان، رحلة كانت صعبة، بذل فيها هذا اللاعب قدراً كبيراً من التضحيات، فهل كانت تضحياته على طريق الفوز بالمونديال، أكبر من الفوز أم العكس؟، قد نصل إلى إجابة عن هذا السؤال في نهاية حديثنا هذا.
في البداية وُلد "ليونيل ميسي" في بلد بائس مادياً، تصل معدلات ديونه، حسب رويترز، إلى أكثر من 16.8 مليار دولار، وبالطبع هذه المعاناة الاقتصادية التي يعانيها الأرجنتينيون، جعلتهم يبحثون عن بديل يجدون فيه هويتهم المفقودة، وسعادتهم الغائبة، في رحلة البحث عن الذات الأرجنتينية.
فقد وجدوا ضالتهم في كرة القدم، فقد فازوا بكأس العالم مرتين قبل البطولة الأخيرة، في المونديال الذي كان على أرضهم فازوا بالبطولة بعد لقطات كانت مثيرة للجدل.
لكن سيكون حديثنا عن المونديال الثاني، مونديال 1986، الذي فاز به الأرجنتينيون بجيل ذهبي بقيادة مارادونا، كان أيضاً بعد الهدف الشهير الذي سجله باليد في مرمى إنجلترا، وللكاريزما حضورها، كان مارادونا ذا حضور طاغٍ.
فقد كان مارادونا صاحب لقطات مميزة في البطولة أبرزها كان الهدف الثاني أمام إنجلترا، لذلك تعلق الأرجنتينيون به تعلقاً شديداً، ومع كل إخفاق في حصد للبطولة كان يزيد الأرجنتينيون في حبهم له، حتى العام 1996، حين أنشأوا كنيسة باسمه وفيها تمثال له، ويحتفلون بالكريسماس الخاص بهم وهو مولد مارادونا، وعيد آخر هو ذكرى فوز الأرجنتين على إنجلترا في العام 1986.
كل هذا ساهم عبر الأجيال المتتالية والسنوات المتعاقبة في تكوين صورة عن مارادونا لا تمس، فحينما يخطئ لا ينتقده أحد، بل يبحثون عن كبش فداء آخر ويظهر لنا ذلك بعد مباراة الأرجنتين وألمانيا في مونديال 2010.
الأرجنتين وألمانيا مونديال 2010
فازت الأرجنتين بصدارة المجموعة الثانية لتواجه المكسيك ثم تواجه ألمانيا في ربع النهائي، يدخل مارادونا المباراة بتشكيل لا يفعله أقل المدربين معرفة تكتيكية، بل حتى لا نفعله وقتها في لعبة البلايستيشن، أربعة مدافعين بعد استبعاد "زانيتي" من القائمة، كان البديل "أوتامندي" كظهير أيمن، الذي لم يلعب في هذا المركز طوال حياته، وبجانبه ثلاثة مدافعين ليس منهم "والتر صامويل" أو حتى "كامبياسو" أبطال ثلاثية إنتر ميلان وقتها، أمام الأربعة مدافعين ماسكيرانو ارتكاز وحيد، أمامهم ثلاثة أجنحة هجومية هم دي ماريا، وماكسي رودريغيز وليونيل ميسي، أمامهم مهاجمان صريحان غونزالو هيغواين وكارلوس تيفيز.
تبدأ المباراة بعد هذه التشكيلة العبثية، ثم تنتهي المباراة بفوز ألمانيا الساحق بأربعة أهداف فقط، لم يكن مارادونا وقتها ضعيفاً من ناحية المعرفة بالتكتيك فقط، بل لم يكن حتى يعلم اللاعبين الذين سيواجههم لاعبوه، قبل المباراة حاول طرد "توماس مولر" من المؤتمر الصحفي بحجة أنه كان يظنه جامع الكرات.
لكن بعد المباراة لم ينتقده أحد، لأنه الإله بالنسبة لأغلب الأرجنتينيين، وإلى جانب ذلك فهو مكار، قادر على قلب الطاولة وجعل أي أحد مخطئ إلا هو، ولكي يظهر لنا مارادونا أن ميسي هو السبب في كل أخطاء المباراة ظهر أمام الكاميرات في هذه الصورة وهو يواسي ميسي.
بعد تلك المباراة تعرض "ليونيل ميسي" لجميع أنواع الضغط، من سب بأسوأ الألفاظ، إلى تحقير وإهانات، إلى مطالبات بنزع الجنسية عنه، إلى وصفه بأنه مرتزق وغير وطني، ومطالبات مستمرة باعتزاله دولياً عدة مرات، إلى حرق قميصه أكثر من مرة.
كل ما سبق لا يتم النظر لأنه حقق كأس العالم للشباب، أو حتى حقق الأولمبياد قبل ذلك، لم تكن الإهانات موجهة من الأرجنتينيين فقط، بل كانت تخرج أيضاً من مارادونا، حين قال ذات مرة: "لا فائدة من جعله قائداً للمنتخب وهو يذهب للحمام 20 مرة قبل المباراة".
لم يكن ليخرج أحد يرد على تلك الإهانات، فهو ليس رونالدو، الذي خرجت أخته تتحدث عندما انتقد أحد الصحفيين أخاها، بعد خروج البرتغال من دوري الأمم الأوروبية، فتقول عن البرتغاليين:
"مرضى وتافهون وبلا روح وأغبياء وناكرون للجميل".
لكن كل تلك الإهانات التي تم توجيهها لـ"ليونيل ميسي"، انتهت بمجرد حمله للكأس ويظهر لنا في هذا الفيديو التالي احتفالات ليونيل ميسي، وهو يشير بيديه ناحية زوجته وكأنه يقول "انتهى كل شيء"
من يرى تلك الاحتفالات من قبل "ليونيل ميسي"، يعلم تمام العلم أنها كانت احتفال من تخلص من أعباء الذي لا يحقق إنجازاً، احتفال الذي تخلص من الضغوط لا احتفال الفائز، كل هذه الاحتفالات كانت ستكون أقوى ذهنياً ونفسياً، لو لم يتعرض لكل تلك الضغوط، أفضل من وصف تلك الاحتفالات بدقة كان أحد الكتاب الرياضيين عندما وصف حالة مشابهة عندما قال: "احتفل وكأنه قفز من أمام القطار في اللحظة الأخيرة"
نعم احتفل ميسي، واحتفل الأرجنتينيون معه كذلك، لكن كلها احتفالات بلا روح وبلا معنى، لأنها لحظة فرحة أتت بعد حملات من الكراهية والتخوين والتقليل والسب بأسوأ العبارات.
بعد هذا الكلام سيبرز سؤال عند البعض، ما السبب لهذا الحديث عن تلك الذكريات، طالما فاز بالكأس؟ لقد نسي كل ما كان يقال له، أجيبه بالنفي قائلاً، لا يا عزيزي لم ينس ليونيل ميسي أي شيءٍ مما تعرض له، فكل ما قيل عنه، وكل ما تعرض له، لم يكن ليتحمله شخص واحد من البشر إذا تعرض له لفترة زمنية قصيرة، لكن الرجل تعرض لهذا على مدار اثني عشر عاماً، حتى ليلة الثامن من ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، فبالتأكيد سيظل كل ذلك عالقاً بذهنه.
يقول الصحفي الأرجنتيني المقيم بكتالونيا "هيرنان كاسياري": "عندما بدأت الإهانات والانتقادات تصل من الأرجنتين لم نكن نفهمها، قالوا إنه يهتم بالمال، وقالوا له ابق في أوروبا، وإنك لا تشعر بالقميص، وقالوا عنه أنت من "غاليسيا" ولست أرجنتينياً، وقالوا أنت اعتزلت في يوم ما، فكر في ذلك مرة أخرى، قالوا عليه مرتزق، لقد عشت خمسة عشر عاماً بعيداً عن الأرجنتين، ولا يمكنني التفكير في كابوس قد يكون أكثر رعباً من سماع أصوات الازدراء وهي تأتي من أكثر مكان تحبه في العالم، لا يوجد ألم يطاق أكثر من سماع عبارة كالتي سمعها "ميسي" بصوت ابنه ذي الستة أعوام، لماذا يقتلونك، لكن عندما اعتزل في العام 2016، جاء صبي يبلغ من العمر 15 عاماً، ليكتب له رسالة على فيس بوك: "فكر في البقاء ولكن ابق لتستمتع يا ليونيل".
كان هذا الصبي هو "إينزو فيرنانديز"، لاعب تشيلسي ومنتخب الأرجنتين، يكمل "كاسياري" حديثه معلقاً على هذه الرسالة: "عاد ليونيل، ليعلم أولئك الأطفال، أن الاستسلام ليس خياراً في هذه الحياة".
ثم اختتم كلامه وهو يقول العبارة الرومانسية الأشهر في هذا البودكاست: "لم يسبق لأحد رؤية رجل بسيط على قمة العالم".
يقول الكاتب بصحيفة "إل بايس" الإسبانية فيدريكو ريفاس مولينا، عن ردة فعل ميسي بعد سماع كلمات هيرنان كاسياري:
في نفس اليوم، يوم الثلاثاء، 19 ديسمبر/كانون الأول 2022م، سافر من العاصمة إلى روساريو، مسقط رأسه، كما يفعل كل عام، وبعد يومين في المنزل، أرسل رسالة مسجلة إلى "آندي كوسنتزوف وهيرنان كاسياري"، أخبر ميسي الرجلين أنه وزوجته، "أنتونيلا روكوزو"، بكيا معاً بعد سماع تلك الكلمات التي قالها هيرنان كاسياري.
بعد كل هذا يظل السؤال مطروحاً، هل كان فوز ميسي بالمونديال يستحق كل هذا؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.