فرحت كثيراً بكأس العالم النسخة العربية في قطر، كما لو أنها كان تنظم في دارنا وليس في الدوحة، في حقيقة الأمر لم أنم صبيحة الافتتاح كأن المشجعين واللاعبين والمنظمين قادمون إلى بيتنا لا إلى ملعب البيت. كانت أجواء تشويقية هائلة يصعب تكرارها لجمهور عربي يعشق كرة القدم، وبلغت ذروتها ببلوغ المغرب "أسود الأطلس" الدور نصف النهائي كأول منتخب يمثل كرة القدم النامية في إفريقيا والمنطقة العربية يصل إلى هذا المقام في المحفل الكروي الأهم. بل إن الشغف والتشويق ازدادا مع كل خطوة في هذا المونديال الاستثنائي بكل ما فيه، ليبلغا مراحل تشعل المشاعر وتحفزها بطريقة يصعب شرحها بالكلمات المكتوبة أو حتى بالحديث عنها.
هي تجربة تعاش بالقلب والعقل فقط.
كانت كل جرعات الشغف والتشويق والمتعة المكثفة تلك قد أتت خلال فترات قصيرة وقياسية يفترض أن تكون بطبيعتها مرحلة البداية الخريفية الهادئة للدوريات الكبرى في أوروبا والدوريات المحلية والقارية حول العالم، أي إن المشاهدين تعرضوا لكميات ضخمة من التحفيز والإثارة الكرويتين إلى الدرجة التي يصعب بعدها توقع أن الأمر سيعود إلى وضعه السابق الذي تبدأ معه متعة المشاهدة والتفاعل تتصاعد تدريجياً وبصورة مطردة ضمن بطولات الأندية ذات الطبيعة طويلة الأمد، وهو حال معاكس للتأثير الصاخب والعاجل الذي تحدثه جلبة كأس العالم والبطولات المجمعة الخاصة بالمنتخبات.
سمي الملل وفتور المتعة التاليان لكأس العالم بـ"اكتئاب ما بعد المونديال"، وهو شعور جماهير كرة القدم بفقدان متعة التفرج على مباريات الأندية المحترفة نظراً إلى بلوغ اللعبة ذروة درجات إمتاعها لهم خلال المونديال بحيث لم تعد تستطيع تقديم ما هو أكثر من ذلك في المرحلة التالية لانتهائه. ليس القصد من هذا الشرح تكرار الكلام حول حدث مَر وانتهى، بل محاولة الربط بـ"الآن"، الآن التي كانت خلال كأس العالم المستقبل القريب المتخيل لما تبقى من موسم كرة القدم 2022-2023.
ليست المسألة بالنسبة لي على الأقل هي "اكتئاب ما بعد المونديال" المزعوم بقدر ما هي دافع داخلي يقول لي: امتنع أو قلل من مشاهدة كرة قدم الأندية ولا تداوم على ذلك بصورة روتينية نمطية كما كان عليه الحال قبل الـ20 من نوفمبر/تشرين ثاني 2022. ربما السبب عدم القدرة على قضاء ساعتين كاملتين أمام التلفاز لتلقي جرعة متعة، أو وفقاً لما تقدم عدم قدرة اللعبة على تقديم تحفيز وإمتاع بالقدر نفسه الذي قدمته كأس العالم الأخيرة، ويرجح أن ضحايا هذه الحالة في معظمهم هم من الجماهير العربية وجماهير المنتخبات التي بلغت المراحل المتقدمة في مونديال قطر مثل كرواتيا وفرنسا والأرجنتين (بطل العالم)، غير أنها ليست حالة "اكتئاب" بقدر ما هي حالة "فقدان للشغف" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
والسؤال هنا، ماذا لو كان منتخب المغرب قد بلغ المباراة النهائية مثلاً، أو لو كان هناك منتخبان عربيان قد وصلا إلى مراحل متقدمة في البطولة، وكيف سيكون تأثير البطولة على متعة الجمهور وشغفه لو كان المنتخب الجزائري مثلاً فعلها وتأهل إلى ذلك المونديال. ربما يصعب تخيل كل تلك السيناريوهات الممتعة نظراً إلى قوة تأثيرها على مشاعر الإنسان وشغفه لرياضة شعبية ذات مفعول سحري مثل كرة القدم، ولكن على الرغم من عدم تحقق كل تلك السيناريوهات فإن الشغف بلغ ذروته لمشاهدي المونديال العرب وبعدها هبط إلى أن أحدث فجوة لم تستطع دوريات الفرق الأوروبية العريقة تغطيتها منذ الـ18 من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وقوف على الأسباب..
لا نكران في أن توقيت المونديال مؤثر جداً على روزنامة الكرة العالمية بغض النظر عن كون التجربة تخصنا كعرب هذه المرة، والجيد في الأمر هو كسر النمطية من حيث التوقيت بأن لعبت كأس عالم في الشتاء للمرة الأولى على مر التاريخ، وكذلك كسر نمطية الهيبة التي تتمتع بها الأندية وإن مؤقتاً والمسّ نسبياً بمكانتها في صناعة كرة القدم وفي كسب قلوب الجماهير وصناعة أمزجتهم وانتماءاتهم.
يمكن القول في هذا السياق أيضاً، إن جزءاً لا بأس به من الجمهور تعطلت لديه وإن مؤقتاً المنظومة النفسية والحاسة التي يكيف من خلالها قدرته على متابعة المباريات بشغف لتلبية حاجته من الترفيه أو الهواية أو الانتماء، إن صح اعتبار مشاهدة كرة قدم هواية بحد ذاتها أو مكملاً لممارسة الهواية أو وسيلة للترفيه أو ربما مكملاً لبناء الهوية.
كل ما سبق يرتبط بأزمة قديمة جديدة في عالم الكرة، لكن أثرها ازداد وضوحاً اليوم، بسبب تغيير روزنامة كأس العالم ونقلها من الصيف إلى الشتاء، وهي سؤال: "أيهما أهم؛ الأندية أم المنتخبات؟". شخصياً لم أعد أعلم منذ أن انتهى المونديال أيهما أهم من الناحية الكروية أو التاريخية خاصة بالنسبة للجمهور. لا جدال في أنه لولا التطور الاحترافي لكرة قدم الأندية وتلون ثقافاتها ومحترفيها وتنوع عقلياتهم وخلفياتهم واختلاطهم معاً خاصة في أوروبا ،لما حدثت استدامة المنتخبات، لكن هل الهدف بالنسبة للمشاهدين رؤية المنتخب الذي يحبون يشارك ويلعب بصورة جيدة وأن يحقق الفوز مقدماً لهم نشوة الاعتزاز والمتعة وشغف المشاهدة، أم رؤية النادي يفعل ذلك أمام عشرات الأندية التي تدور في فلك الوطني والقاري والعالمي.
هذا يتعلق ربما بطبيعة الجمهور وطبيعة العلاقة الرابطة لديه بين السياق الوطني للمنتخب الأول وقوة الأندية والدوريات في بلده، كما يرتبط بطبيعة كل شخص وكيف يفهم الاستمتاع والانتماء، كما أن للسياسة وطرق التسويق والترويج التي تقدم من خلالها المنظمات والاتحادات الكروية وأهمها الاتحاد الدولي "فيفا"، بطولات المنتخبات والأندية سواء بتعاونهم أو تنافسهم أو حتى تضارب مصالحهم دوراً مؤثراً على عملية برمجة الجمهور لأولوياته وولاءاته إن كانت نحو المنتخب أو النادي.
وبالعطف على الولاءات تلك، فإن أكثر ما يصعب التعامل معه هو التناوب المكثف والمستعجل بين كرة قدم المنتخبات والأندية، وهو أمر مؤثر للغاية؛ نظراً إلى أن طبيعة كل منهما تخلق واقعاً مختلفاً عن الآخر وجماهير متباينة، إذ ليس من السهل تقليب الولاءات الكروية لدى المشاهدين وتوقع الحصول على نفس درجات الإمتاع والاستمتاع والمحافظة على الشغف العالي، فمشاعر الإنسان متفرجاً كان أو لاعباً وميوله المتعلقة بالانتماء لا تعمل بهذه الكيفية التبديلية الطارئة خاصة حين يتعلق الأمر بكيانين يقدمان الموضوع نفسه عبر الوسيط (الشاشة) نفسها ولكن ضمن سياقين مختلفين يفترض أنهما متكاملتان لإشباع الجمهور وليسا في حالة تنافس مع بعضهما البعض على جذب المشاهد أو إشعاره بالتخمة والنفور.
من المهم الإشارة هنا إلى أن المتعة المقدمة من الأندية هي متعة تأتي ضمن جرعات تشويق معتدلة تمر بمنحنى صعود وهبوط وبمراحل تمتد لأشهر متعددة ريثما تبلغ ذروتها، بينما كرة قدم المنتخبات يتم تجميعها غالباً وتقديم كل محتواها في بطولة مكثفة تقوم على استدعاء المحترفين لفترات قصيرة، ما يحتم ضرورة التعامل معها من القائمين على البطولة لاعبين كانوا أو منظمين، على أنها حالة اختبار قصير، نتائجه وانعكاساته وضمنها التشويق، سريعة وعاجلة.
لا حلول لتراجع الشغف..
ربما كان من الجيد للاتحادات القارية والقائمين على الدوريات الكبرى تنظيم المراحل التالية لكأس العالم بطريقة مغايرة، حتى يبقى هناك هيبة للمباريات وقدرة على الجذب، فبغض النظر عن كون أيهما أكثر أهمية؛ الأندية أم المنتخبات، وبغض النظر عن تفاوت وجهات النظر حول توقيت المونديال، كان يفترض بالدوريات الكبرى والاتحادات القارية- لا سيما الأوربي- البحث عن خطة تسويقية بديلة من منظور اقتصادي وأخذ نفسية المشاهدين بعين الاعتبار قبيل العودة للمباريات في نهاية العام الماضي؛ كي لا يشعر المشاهد بالضجر والملل من مشاهدة كرة القدم.
ليست أولوية الجمهور هنا الوقوف مع أي من الفريقين في الخلاف الذي دار بين الاتحادات القارية من جهة والفيفا من جهة أخرى حول تأثير موعد المونديال على روزنامة الأندية بقدر ما هي أولوية الحصول على حل من هؤلاء الفرقاء يضمن ألا تتحول كرة القدم بعد انتهاء كأس العالم إلى مجرد مهنة إلزامية تمارسها فئة من الناس كما لو أنها فرض وواجب كأي مهنة أخرى دون مراعاتهم أنها رياضة وصناعة متعة تمر بمراحل ذروة الحماسة والتحفيز وبعدها مراحل التراجع والفتور التي تحتاج إلى معالجات حكيمة وذكية.
تشبه هذه الحالة إلى حد كبير حال كرة القدم في مراحل كورونا، إذ كانت كرة القدم في تلك الفترة خاصةً عام 2020، مجرد مهنة كأي مهنة أخرى تلعب من باب الواجب، فعانت مرحلة كان اللاعبون والأندية فيها مضطرين إلى التعامل مع الأمر بما ينسجم مع الضوابط الصحية منعاً لانتشار الوباء، ما جعلها لعبة بلا روح طوال الفترات التي خلت فيها المدرجات من المشجعين، والأمر بطبيعته أصاب المتفرجين عن بعد بالإحباط، وأما الفارق عن فترة كورونا فهو أن ذاك الإحباط يتسلل اليوم إلى قلوب المتفرجين ويصيبهم بشعور الانفصال الذهني أو تراجع التفاعل بصورة كبيرة مع ما يجري في عالم كرة القدم من أحداث رغم وجود كل مكونات المباراة على أرض الواقع، والسبب هو سريان المباريات بلتدفق القديم نفسه دون مراعاة تأثير كثافة التعرض لها وفقدان الفواصل الزمنية على عاملي التشويق والرغبة.
الأندية تعرف جيداً منذ سنوات، أن كأس العالم 2022 مقررة في الشتاء منذ ذلك العام، وبالتالي فإن اتحاداتها كانت قادرة في وقت سابق، على تنظيم إجازة بعد كأس العالم لمدة شهر ونصف مثلاً قبيل العودة المعتادة إلى الدوريات، وهو حل أكثر يراعي نفسية المشاهد وشغفه ويعطي فرصة استراحة جيدة للاعبين والجماهير قبل العودة إلى التعامل مع وقائع كروية جديدة، إذ لا مشكلة في تأخير روزنامة المنافسات قليلاً بفاصل زمني مريح مع تكثيفها قليلاً طالما أن الأمر قابل للتنظيم مسبقاً ونفعه كبير، وطالما أنه يمكن دفع بطولات الموسم المقبل أسبوعاً أو أسبوعين إلى الأمام في سبتمبر/أيلول 2023م، فالاستشفاء الذهني للمشاهدين والجماهير مهم بنفس درجة الاستشفاء العضلي للاعبين.
السياسة تقتل المتعة..
وفي السياق السياسي المؤثر على شغف الجمهور لمشاهدة مباريات الأندية الأوروبية، فقد لعبت الهجمة الشرسة ضد قطر واستضافتها لكأس العالم كبلد عربي مسلم وباعتبارها تمثل كرة القدم النامية، دوراً مهماً في تغير النظرة لدى كثير من الجماهير خاصةً العربية، وتراجع شغفها تجاه كرة قدم الأندية الأوروبية، فالبث السلبي ضد قطر من قبل الإعلام الغربي طيلة فترة المونديال وما قبلها خلق شعوراً بالنفور من كرة القدم الأوروبية وإن كان مؤقتاً. ويمكن القول إن مرحلة ما قبل المونديال وبدايته التي شملت ذروة الهجوم على قطر إضافة إلى المرحلة التالية للمونديال التي شملت العودة غير المتدرجة للدوريات الكبرى وعدم خلق أي مرحلة فصل ذهني بينها وبين كأس العالم، هما عاملان كافيان لتنفير الجماهير وعزوفها عن المشاهدة أو أن يصبح المشاهد مقلاً مكتفياً بالملخصات وبعض المقتطفات.
تغيرت النظرة نسبياً وليس كلياً تجاه كرة القدم الأوروبية، فهي لا تزال متفوقة على مستويات الأداء والتنظيم والجماهير والقيمة التسويقية والعوائد ولا يمكن نكران كل تلك الحقائق، لكن ما يدور حولها سياسياً واقتصادياً، فضلاً عن النظرة الشوفينية الأوروبية ذات البعد الاستشراقي والتي ترافقت مع كأس العالم، إضافة إلى تسييس البطولة ومهاجمة الدولة المنظمة على عدة مستويات وخلط الأمور وصولاً إلى عدم احترام الثقافة والجمهور العربيين في كثير من المناسبات، كل هذه أشياء تسببت لكثير من عشاق الكرة ومتابعيها بصدمات نفسية وردود فعل وأدت إلى تراجع الشغف والنفور الجزئي.
النفور ذاك حالة تعبير عن تمرد الجمهور ضد الصورة النمطية المراد رسمها حول كرة القدم الحديثة بجعلها لعبة مبنية على تراتبية السلطة والقوة في العالم، ما ينافي جوهر كونها "رياضة الفقراء"، ومن المفارقات العجيبة هنا أن النفور وتراجع الشغف تجاه كرة القدم التي يحبها الناس يصبحان أحد أشكال التمرد والاحتجاج على القائمين على الكرة وليس على اللعبة بحد ذاتها.
ومن غير الواضح إن كان بلوغ أقصى درجات الإمتاع والشغف خلال كأس العالم كافياً للشعور بالإشباع طيلة ما تبقى من الموسم، ولكن في المقابل فإن الأندية التي تقدم كرة قدم جميلة هذا الموسم مثل نابولي الإيطالي وأرسنال الإنجليزي على سبيل المثال لا الحصر، لم تستطع بكل جمالها الكروي وأدائها الرفيع إحياء شغف المشاهدين، ذاك الشغف متعدد الجوانب الذي يشعر عاشق كرة القدم بأنه يرتبط بهويته وحياته اليومية وليس فقط بالمباراة نفسها.
يبدو أن الجمهور والمشاهدين والشاشات وربما الملاعب كانت بحاجة إلى إجازة من كرة القدم، أو ربما يجب تنظيم هذه الإجازة قريباً، أو ربما سيضطر الجمهور إلى أخذ إجازة لمدة شهر أو شهرين ونسيان أمر البطولات مؤقتاً ريثما تحل مواعيد الحسم والنهائيات فيها، لا سيما أنه لم تتوافر لدى القائمين على كرة قدم الأندية آلية أو خطة لتصحيح الموقف المتعلق بتراجع الشغف وتحقيق استشفاء لرواد الشاشات وحتى المدرجات.
لن أدَّعي أن ما تقدم شيء يجب اعتباره حالة عامة أو نظرية سلوكية أو نتائج تمثل مجموعة كبيرة من الناس، إنها مجرد محاولات للدفاع عن كرة القدم، فالكرة الاحترافية تمر بالفعل بأزمة في تقديم نفسها بصورة جذابة بعد كأس العالم وعلى القائمين عليها إعادة هيكلة الأمر ليس لإبقائها الرياضة الشعبية الأولى في العالم فهي كذلك شاؤوا أم أبوا، بل لإبقاء أهمية نتائجها ووقائع احترافها على أرض الملعب متناسبة مع درجة شعبيتها وحتى لا يحصل شرخ حقيقي بين كرة قدم الشعوب والجماهير وكرة قدم المحترفين وأصحاب المال.
نعود إلى نقطة البداية، هل أنا الوحيد الذي يشعر بفقدان الشغف لمشاهدة كرة القدم حالياً أم هناك كثيرون مثلي؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.