لو أن الكاميرات لم توثق هجمات ميليشيات المستوطنين على حوارة بالصوت والصورة لوجدنا من يخرج مشككاً فيها ليبرئ ساحة المستوطنين. أعادت اعتداءات المستوطنين لأذهاننا صور هجوم العصابات الصهيونية على قرانا ومدننا وأهلنا عام 1948 وتدميرهم للبيوت والمدارس والمساجد وإحراق الحقول والمزروعات وارتكاب المجازر، دون استثناء لطفل أو شيخ أو امرأة..
وكأن التاريخ يعيد نفسه.. انتبهوا، التاريخ يتحدث، فاصغوا باهتمام لكل كلمة يقولها، فعلينا أن نأخذ العبر.
جاء الصهاينة إلى فلسطين يحملون في أذهانهم فكرة واحدة: "هم شعب الله المختار، وبقية شعوب الأرض دونهم، وُجِدوا فقط لخدمتهم وراحتهم".
ما شاهدناه من عنف المستوطنين في حوارة ليست سياسة جديدة وليس سلوكاً طارئاً مستجداً، بل اعتقاد راسخ في نفوس الصهاينة درجوا عليه منذ القدم. مثال واحد يدلل على صحة ما أقول:
ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية قال في إحدى خطبه في المؤتمر الصهيوني الأول (29–31 أغسطس/آب 1897): "إذا حصلنا يوماً على القدس وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي شيء.. فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها، وسأحرق الآثار التي مرت عليها قرون"، إذاً هذه هي العقلية التي جاءوا بها.
جمعيات استيطانية كثيرة تنشط في مستوطنات نابلس وخاصة مستوطنة "يتسهار" مركز تفريخ الحركات الاستيطانية المتطرفة، مثل "جمعية فتيان أو شبيبة التلال"، وتُسمى أيضاً جماعات تدفيع الثمن، مثل حركة "ريغافيم"، وحركة "نحالا".. وغيرها.
يجوب أعضاء هذه الجمعيات الأراضي الفلسطينية لاختيار ما يعجبهم منها، بعد اختيار الأرض يحضرون الكرافانات وبعض الأثاث البسيط وبقرة وحصاناً ويُطلقون عليها مسمى بؤرة استيطانية، ولا يغادرونها خشية استرجاع الفلسطينيين لها.
يسعى قادتهم لشرعنتها في المحاكم الإسرائيلية بطرق شتى، والغاية هنا تبرر الوسيلة، وكل شيء مباح في سبيل تحقيق الهدف وامتلاك الأرض. وفي الوقت ذاته تبدأ الجمعية الاستيطانية تحت حماية جيش الاحتلال بإزالة الأشجار الموجودة في المنطقة، وغالباً ما تكون أشجار زيتون وأشجار برية كبيرة مثل الخروب والبطم والبلوط وغيرها توجد بشكل طبيعي على الجبال الفلسطينية، ثم ينشئون طريقاً معبدة تصل للبؤرة، ويمدُّونها بالماء والكهرباء والصرف الصحي وكل ما يلزمها للاستمرار والبقاء، وبين عشية وضحاها تصبح هذه بؤرة نواة لمستوطنة تأخذ بالتضخم حتى تصبح أمراً واقعاً.
إذا أردت أن تعرف مدى الأذى الذي يمارسه هؤلاء المستوطنون على الفلسطينيين فاذهب إلى القرى الفلسطينية القريبة من المستوطنات مثل قرية بورين، وقرية برقة وقرية قراوة بني حسان، وقرية قصرة، وقرية النبي صالح.. وغيرها، وكن شاهداً على اعتداءات المستوطنين المسلحين في أغلب الأحيان بأسلحة حديثة على المزارعين في أراضيهم نهاراً واعتداءاتهم على بيوتهم ومزارع حيواناتهم ليلاً.
لا أظنكم نسيتم كيف حرق المستوطنون بيت عائلة دوابشة في قرية دوما ليلاً، فقتلوا الأم والأب وطفلهما، ونجا الطفل الثاني بأعجوبة مصاباً بحروق بالغة تركت تشوهات عميقة في أجزاء من جسده.
كثيراً ما تنشر وكالات الأنباء خبر إحراق المستوطنين لأشجار الزيتون أو اقتلاعها ليلاً، ويمر الجميع على الخبر بشكل عادي دون أن يأخذ مساحة من تفكيره، وكأن اقتلاع أشجار معمرة يتجاوز عمر الواحدة منها عمر دولة الاحتلال، شيء عادي.
فليذهب أحدكم إلى الحقول في موسم قطف الزيتون وخاصة تلك التي تتواجد بالقرب منها مستوطنات، وشاهدوا بأعينكم هجوم المستوطنين على المزارعين، وسرقة أكياس الزيتون التي أمضى الفلسطينيون يومهم في حصادها تحت تهديد السلاح، أو سرقة خزانات الزيت بعد عصرها أثناء العودة بها إلى البيوت بعد عمل يوم شاق.
إذا تصدى المزارع الفلسطيني للمستوطن وحاول حماية زيتونه وزيته بيديه الفارغتين، استحلَّ الجيش المرافق دم المزارع، فهو مجرم في نيته تنفيذ عملية إرهابية في مواطن يهودي، أما المستوطن المعتدي فهو دوماً بريء، حتى وإن حضرت كل أدلة الإدانة التي لا لبس فيها إلى المحكمة التي لا علاقة تربطها بالعدالة. وفي أسوأ الظروف يتم إحضار تقرير يثبت أن المستوطن مريض نفسياً.
قد تتساءلون: ولماذا لا يدافع الفلسطيني عن أشجاره وبيته وزيتونه ومزرعته؟ وأُجيب: بل يدافع.. ويدافع بصدره العاري وبحجارة من أرضه لأنه لا يملك غيره.
الاحتلال من جهة، وسلطة رام الله من جهة أخرى جردوا الفلسطيني من نابه ومخلبه وقصّوا أجنحته وصادروا كل ما يمكنه أن يدافع به عن نفسه، ثم بعد ذلك نجد من يخرج علينا ويقول: الفلسطينيون يبيعون أرضهم لليهود!
الشاب علي حرب من قرية اسكاكا/ محافظة سلفيت، بلغه أن شبيبة التلال يضعون كرافانات في أرضه الموجودة في منطقة صخرية بعيدة عن القرية يريدون السيطرة عليها وجعلها بؤرة استيطانية، سارع لحماية أرضه وإخراجهم منها، صرخ بهم وأمرهم بالجلاء عن أرضه فسارع أحدهم وطعنه في صدره أمام الجيش. تُرك الشاب أرضاً ينزف حتى لفظ أنفاسه.
تكرر الحادث قبل الأيام مع الشيخ سامح الأقطش في قرية زعترة القريبة من حوارة التي هاجمها المستوطنون، فهب للدفاع عن ممتلكاته فأطلقوا عليه الرصاص فارتقى شهيداً، وتتكرر الأحداث، ويرتقي الشهداء، ويتنطع البعض للمساواة بين الضحية والجلاد!
أما سلطة رام الله، فتصرخ بملء صوتها في توفير الحماية الدولية للفلسطينيين. فيخرج علينا المسؤولون الدوليون عبر الإعلام ليعربوا عن قلقهم، ويصفوا ما يحدث بالمريع والمخيف.
عبارات لا تُعيد شهيداً ولا تُداوي جريحاً ولا تُؤمِّن خائفاً ولا تحمي سيارة أو بيتاً أو مخزناً أضرم فيه المستوطنون النار، وينتهي الأمر، وكأنهم أدّوا واجبهم وفعلوا ما عليهم، ويبقى الفلسطيني بمفرده ليواجه عدواناً شرساً لا ينتهي.
إذا لم يبادر الفلسطيني لحماية نفسه وأسرته وبيته وأشجاره وممتلكاته بكل ما يتسنى له من قوة، فلن يعبأ أحد بمعاناته ولن يهتم به أحد، ألم يقولوا منذ زمن بعيد: "البقاء للأقوى"؟ وهو ما أثبتته الوقائع والأحداث منذ أقدم العصور وحتى الآن.
فلنأخذ العبر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.