في عالمنا المعاصر، يشكل الاقتصاد العالمي الحالي والقائم على نظام البنوك والبورصة والمضاربة ركناً أساسياً للنظام العالمي، سواء بشكله السياسي أو الاجتماعي.
وفي هذا النظام الذي يتخذ من الرأسمالية المجردة من كل مشاعر إنسانية أو بشرية بوصلة له لتحقيق أكبر قدر من الأرباح، بغض النظر عن الطريقة التي ستتحقق بها هذه الأرباح، نجد بيئة تنافسية متوحشة لا ترحم أحداً، يأكل فيها القوي الضعيف، ويتسابق فيها البشر حول فرص قد تضر بغيرهم بغية الحصول على المال وتحقيق الثراء السريع.
وفي مثل هذه البيئات التي تماثل في مكنونها بيئة الغابات، حيث البقاء للأقوى والأذكى والأكثر استعداداً لأخذ زمام المبادرة والمخاطرة، من الطبيعي أن يصعد على قمة هرم المنتصرين فيها الأشخاص الأكثر قدرة على الخداع، ومن هنا تبدأ لعبة تحقيق الثراء الحقيقية.
في اليوم الرابع من يناير/كانون الثاني الشهر الماضي، أصدرت نتفليكس مسلسلها الوثائقي والتاريخي حول أحد أشهر المخادعين في تاريخ Wall Street وهو Bernie Madoff الرجل المخادع الذي قام بتدبير أكبر عملية خداع على نمط هرم بونزي في تاريخ الاقتصاد.
لذا وقبل أن نبدأ بحديثنا المعتاد حول المسلسل، دعني أعرفك أولاً بمفهوم
"هرم بونزي" .
هرم بونزي أو Ponzi schemes
تتمثل خدعة بونزي تلك في كونها نظام بيع يأخذ شكل الهرم، حيث يقوم مُنظم الخدعة بإقناع المستثمرين بربح ضخم إذا دفعوا له أموالهم، ولكن بالطبع لا يقوم المُنظم باستثمار تلك الأموال في أي شيء، بل يستخدمها لدفع الأرباح التي وعد بها إلى مستثمرين آخرين أقدم، وهكذا تأخذ خدعته شكلاً هرمياً على نسق ما نعرفه في مجتمعنا بالـ"التسويق الشبكي".
ولكن سرعان ما تنهار الخدعة؛ لأن أموال المستثمرين تنفد في النهاية، ولا يملك حينها المُنظم القدرة على دفع قيمة وعوده، لذا وقبل أن ينكشف أمره، يقوم بتجميع كل ما يستطيع من أموال ثم الهرب بها.
وقد سُميت هذه الخدعة بهرم بونزي لأنها تأخذ شكلاً هرمياً وكذلك نسبة لشارلي بونزي والذي كان أحد أشهر مستخدميها، وقد قام بها في عشرينيات القرن الماضي.
إذاً من هو Bernie Madoff؟
بيرني مادوف، هو مستثمر ومخادع مالي أمريكي، قام بتنظيم أكبر عملية خداع على نسق هرم بونزي في التاريخ، والتي استطاع بها سرقة 65 مليار دولار من المستثمرين الأمريكيين.
لا تسئ الظن بالرجل، فهو قد اعتقد أنه فهم لعبة النظام الاقتصادي العالمي منذ البداية، حيث لكي تتحول إلى حوت داخل ذلك النظام عليك أن تأكل السمك الصغير بلا رحمة، وهذا بالضبط ما فعله بيرني منذ عام 1970 حين قرر البدء بتزييف تعاملات شركته المالية وتحويلها لهرم بونزي مهول الحجم.
بالطبع بالنسبة لأمثالنا من عوام الناس، وكذلك بالنسبة للمستثمرين الذين استطاع بيرني خداعهم، لم يكن بيرني أمام أعينهم وكذلك أمام أعين موظفيه سوى رجل أعمال مخضرم ومحترم، كان يمتلك القدرة على تحويل بيئة العمل بين جدران شركاته إلى بيئة عائلية دافئة، حيث ينظر إليه الموظفون دائماً بتطلع ويتمنون أن يصبحوا مثله في يوم من الأيام.
ويمكن القول أيضاً إن بيرني كان رجل عائلة محترماً وشغوفاً بالأعمال الخيرية وأسهم في تطوير اقتصاد وطنه، ولكن هكذا دائماً تُنسج الأساطير حول أكثر وحوش العالم إجراماً.
فعلى غرار الإسكندر الأكبر السفاح والذي تصوره الأساطير كبطل فاتح عظيم، تُنسج الأساطير حول أمثال بيرني، ولكن دائماً ما يضرب القدر ضربته ليحقق العدالة وينصر المستضعفين الذين داس عليهم بيرني وأمثاله بأقدامهم.
فرغم استمرار خدعة بيرني عقوداً طويلة، إلا أن خدعته ذات نهاية محتومة، حيث يحوم الموت حول خيوطها ليقطعها في النهاية كاشفاً الستار عن الوجه الحقيقي لها.
وهكذا خلال بداية القرن الحادي والعشرين، حصل الموظف البسيط Harry Markopolos على مهمة بدت للوهلة الأولى سهلة نسبياً، حيث سيقوم بتتبع وتحليل طرق Bernie Madoff للحصول على الأموال، وهكذا كأنها إثبات على تأثير الفراشة، استطاع هاري اكتشاف خدعة بيرني والتي استمرت عقوداً بعدما أصبح أحد أشهر رجال الأعمال في الاقتصاد الأمريكي وشارع وول ستريت.
عن مسلسل Madoff: The Monster of Wall Street
هنا دعني أحدثك بصراحة مطلقة، إن لم تكن مهتماً يوماً بعالم الاقتصاد والأعمال، وتشعر بالملل من كل تلك الأرقام والمفاهيم الاقتصادية المعقدة، هذا المسلسل هو أبعد ما يكون عن تلك الأمور.
فخلال أربع حلقات فقط، ستشهد بنفسك قدراً مذهلاً من الإثارة والتشويق، بينما تتبع بكل حواسك الخطوات التي اتخذها وحش وول ستريت منذ بدايات حياته وحتى وصوله إلى القمة.
سترى وستسمع بنفسك كل تفاصيل حياة ذلك الوحش منذ كان طفلاً صغيراً ومجرد حفيد لعائلة يهودية مهاجرة، وحتى وفاته في زنزانته في عمر الثانية والثمانين.
وليس هذا فقط، فالمسلسل الذي يمتاز بالاحترافية التي لاحظناها كمشاهدين في وثائقيات نتفليكس الأخيرة، يسلط الضوء على نظام الاقتصاد العالمي، وكيف يسهل على أمثال بيرني أن يستغلوا هذا النظام لمصلحتهم، بل يبقون كذلك متخفين عن القانون لعقود طويلة.
يتسلسل المسلسل كذلك بين جنبات عقل مادوف ومحيطه الرأسمالي، لنعرف بالضبط كيف ولماذا فعل ما فعل، وكيف أن النظام المالي الراعي للطمع سمح لوحش مثل بيرني بالتغلغل كالسرطان داخل النظام، ليبقى مستمراً سنين طويلة دون كشف أمره.
ويمتاز المسلسل كذلك بكونه لا يقدم قصة الوحش فقط، بل يعطي صوتاً لضحاياه الصامتين أيضاً، فمثل هؤلاء الضحايا، من مواطنين ومستثمرين صغار، يحاول في النهاية اللعب طبقاً لقواعد النظام، وسرعان ما ينتهي بهم الأمر أسفل أقدام الوحوش مثل بيرني.
في النهاية، سيقدم لك المسلسل جرعة ممتازة من الإثارة والتشويق حول قصة كارثة حقيقية، كارثة وجود وحوش مثل بيرني يمتصون دماء البشر لأجل المال.
أعمال وثائقية أخرى ستنال إعجابك بالتأكيد
1- Eat the Rich: The GameStop Saga
يسرد هذا الوثائقي قصة ملحمة Gamestop حيث يقرر مجموعة من الشباب المستخدمين لموقع reddit إنقاذ شركة ألعابهم المفضلة من براثن وحش شارع وول ستريت، ولكن الأزمة الاقتصادية تشعل الحرب بين الطرفين أكثر، فهل سيفوز وحش النظام الرأسمالي أم الشباب؟
2- Skandal! Bringing Down Wirecard
يتتبع مجموعة من الصحفيين الأبطال ألعوبة اختفاء ما يقارب 1.9 مليار يورو من شركة Wirecard للخدمات المالية، ليكتشفوا إحدى أكبر عمليات السرقة في التاريخ.
3- FIFA Uncovered
كرة القدم ليست مجرد لعبة، فهي تعبير مجازي عن وضع سياسي واقتصادي عالمي متقلب بمرور الزمن، يكشف المسلسل الأسرار الداخلية داخل منظمة فيفا، وكيف تتحرك الأموال وخطوط السياسة لتقرر حقيقة تنظيم كأس العالم.
4- Pepsi, Where's My Jet?
أحد أمتع الوثائقيات الي ستراها بعينيك، فهذا المسلسل يسرد قصة الصراع القانوني التاريخي والرهيب، بين الفتى ذي العشرين عاماً وشركة بيبسي العملاقة بسبب فوزه بطائرة نفاثة حقيقية، سترى في هذا المسلسل معركة قانونية لم تسمع عنها من قبل في كتب التاريخ وسيضمن لك متعة رهيبة.
والآن بعدما وصلنا لنهاية المقال، ومشاهدتك لكل الوثائقيات السابقة، ستدرك جيداً كيف يمكن لوحوش كبيرني أن تظهر وتتغذى في ظل هذا النظام العالمي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.