في السنوات الأخيرة، مع التحولات الجيوسياسية في العالم، خاصةً مع الحرب الروسية الأوكرانية، والتحولات الجارية في كثير من الدول الإفريقية، ومدى رفضها للأدوار الفرنسية فيها، وحدّة التنافس بين الدول ذات الاقتصاديات الكبرى المحموم على إفريقيا، مثل روسيا والصين وأمريكا واليابان وغيرها.
وجدت الدولة الفرنسية أنها تفقد تدريجياً نفوذَها أمام معادلة صعبة، لم تستطع بسياستها الخارجية والعسكرية إحكام قبضتها على مناطق نفوذها، وتمثلت المعادلة في كيف لفرنسا أن تبقى مكانتها ونفوذها وصدارتها دون الارتكاز على إرثها الاستعماري وماضيها في علاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع الدول الإفريقية، وهي تعيش تحولات سياسية واقتصادية في علاقاتها مع فرنسا، والاعتراض على الوجود العسكري الفرنسي.
قد عرض الرئيس ماكرون الخطوط العريضة والعامة للسياسة الجديدة لفرنسا في علاقاتها مع إفريقيا، في مواجهة نمو المعاداة لفرنسا في كثير من دول المجال الفرنسي بإفريقيا، خاصة دول الساحل، بعد نهاية عملية "بارخان" الفرنسية العسكرية.
دول المجال الفرنسي بإفريقيا هي مناطق الحيوية لفرنسا والنفوذ، وتتمتع بالثروات، صرح الرئيس الفرنسي ماكرون "أنه يتوجب على فرنسا مستقبلاً أن تتحلى بالتواضع والمسؤولية في علاقاتها مع إفريقيا"، وهذا إقرار من الرئيس بأن فرنسا في علاقاتها السابقة كانت تتميز بالاستعلاء والهيمنة، وهو سلوك استعماري مع الدول التي كانت مستعمرات سابقة لفرنسا.
فرنسا أدركت أن البساط الأمني والعسكري والاقتصادي يُسحب من تحت أقدامها بوجود منافسين شرسين لها في إفريقيا، لا يملكون خلفية استعمارية مع إفريقيا مثل الروس والصين وأمريكا.
أما بخصوص العلاقة الأمنية العسكرية فتحدث "ماكرون" بأن فرنسا لا تزج نفسها في استراتيجية المنافسة والاستعراض العسكري مع دول أجنبية موجودة عسكرياً وأمنياً في إفريقيا، ويقصد بذلك قوات "فاغنر" الروسية، التي عقدت صفقات أمنية مع دول منها "إفريقيا الوسطى ومالي"، وهناك آفاق في التعاون الأمني العسكري مستقبلاً مع دول أخرى مثل "بوركينافاسو وتشاد والنيجر وموريتانيا"، وهي الدول التي تمثل منطقة الساحل الإفريقي، وذلك بحكم تواجد تهديدات إرهابية لجماعات مسلحة متنوعة ومنتشرة بكثرة ومتواطئة مع جماعات الجريمة المنظمة "المخدرات، وتجارة البشر والهجرة غير الشرعية".
أن الوجود الأمني والعسكري لـ"فاغنر" الروسية يشكل تهديداً للوجود العسكري الفرنسي، ما جعل "ماكرون" يدعو إلى رفض اعتبار إفريقيا مستقبلاً مجال منطقة نفوذ عسكري وأمني فقط، بل انتقلت فرنسا من هذا الاعتبار والدونية في النظر لإفريقيا إلى اعتبار علاقاتها معها بعيدة عن منطق المساعدة، وتتحول إلى منطق الاستثمار والتنمية الاقتصادية، ولم تعد إفريقيا إقليماً استعمارياً في نظر فرنسا، بل أصبحت بعد التوجهات الجديدة تحظى بالأولوية والمكانة الاقتصادية، التي من الضروري الحفاظ على مكانة فرنسا بها للاستفادة من خيراتها.
الصين في إفريقيا
صارت الصين الشريك الاقتصادي الأول لإفريقيا، وتحوز استثمارات كبيرة في العديد من الدول الإفريقية، وهذا يقلق كثيراً الدولة الفرنسية ويؤرقها، وهذا ما جعل فرنسا تتأرجح سياستها الخارجية بين الأمني والاقتصادي، وعلى هذا المستوى فرنسا لم تحسم المعادلة، وهذا يدل على أن فرنسا غير مستعدة كاملاً للخروج من هذه الازدواجية في العقلية الاستعمارية لها، والإقرار باستقلالية وسيادة الدول الإفريقية.
فرنسا سعت لتخفيض منسوب الوجود العسكري، لتنقل وضعها في إفريقيا من استراتيجية الهيمنة والسيطرة على الأرض إلى استراتيجية الشراكة مع القوات العسكرية الإفريقية، ولكنها لم تتخلَّ عنه بالكلية.
تهديدات الهجرة غير الشرعية لفرنسا
العامل الديموغرافي يلقي بظلاله على العلاقات الفرنسية الإفريقية، حيث سيبلغ عدد سكان القارة الإفريقية وفقاً للعديد من الدراسات، مع مطلع عام 2050، "مليارين ونصف المليار" من البشر، وهذا النمو سينعكس على منسوب الهجرة غير الشرعية، ويزيد في وتيرتها وثقلها على أوروبا وفرنسا تحديداً، خاصة من دول حسب الإحصائيات مثل نيجيريا ومالي وغينيا والنيجر ودول جنوب الصحراء والساحل الإفريقي.
إن تهديدات الهجرة غير الشرعية لم تتضح بعد معالجتها وحلولها في الاستراتيجية الجديدة للسياسة الفرنسية بإفريقيا، وليس فيها رؤية تنموية، بحيث تمكن فرنسا من معالجة قضية الهجرة، وأغفلت ذلك وركزت على ما تريده من إفريقيا، أما على الجانب الأمني فقد اتخذت فرنسا العديد من الإجراءات، لتخفيض الوجود العسكري واستبداله بالشراكة العسكرية والأمنية من دول القارة السمراء.
ختاماً.. إن إفريقيا تشكل مطمعاً لمختلف الدول العظمى، الساعية لاستغلال الثروات الإفريقية، فهي منطقة غنية بالمواد الخام، وتتميز بمساحات شاسعة من الأراضي الخصبة، وذات آفاق واعدة، وتشكل محفزاً اقتصادياً للعديد من الدول التي تسعى للهيمنة الاقتصادية والسيطرة على ثروات دول القارة السمراء، فسعت الدول الكبرى لإقامة العديد من جسور التواصل والتعاون والتجارة معها.
لقد كان القرن الماضي يطغى عليه النفوذ الاستعماري، والهيمنة الأمنية والعسكرية على دول القارة السمراء، أما القرن الحالي فيطغى عليه النفوذ الاقتصادي والتجاري، فمَن كان نفوذه الاقتصادي بالدول الإفريقية قوياً فسيحظى بالأولوية الاقتصادية والتجارية في إفريقيا، بمنطق رابح، وينعكس ذلك على مستوى توفير الأمن والتنمية فيها، أما فرنسا فبدأ يتلاشى ويتراجع نفوذها في إفريقيا، بحكم البدائل الاقتصادية والشركات المتعددة المتاحة لدى الأنظمة الحاكمة في دول القارة السمراء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.