مرحلة تاريخية فاصلة تلك التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية اليوم، حيث ما زال بعضها يقاوم بقايا فترات الاستعمار الأسود، فتشتعل الثورات وتخبو ثم تحتقن لتنذر بانتفاضات أكبر، وبعضها يتلمس طريقه نحو انطلاقة كبرى ينافس فيها ما يسمى بالعالم الأول، ويحاول أن يضع قدمه في مصاف الدول المتقدمة، فيحتل مراكز أولى في التعليم ورفاهية أبنائها ومظاهر تحضرهم.
وسط ذلك البحر المتلاطم تتعالى صيحات وتزداد الشعارات التي تحتكر الحلول في فكرة دون أخرى، فمن الاشتراكية للرأسمالية لليبرالية للإسلامية التي تجتزئ الدين في فكرها دون غيرها، تقف الشعوب حائرة عاجزة في انتظار المخلص الذي يرفع عنها آلام الاستبداد الجاثم على صدورها منذ قرنين أو يزيد، وحين أتيح للشعوب الاختيار بعد ثورات لم تكتمل بعد، اختارت هويتها ومرجعيتها الإسلامية بشكل متحضر أبهر العالم.
لكن الحركة الإسلامية التي لم تكتسب خبرة كافية كغيرها من أصحاب الأفكار الأخرى لم تستطع بفعل النظم الاستبدادية التي احتكرت العمل السياسي منذ عام 1952، وأوقفته على فئات محددة لم تسمح لغيرها بالتعاطي السياسي، وراهن الجميع على وعي الشعوب في نجاح التجربة أو فشلها، وهو رهان خاسر، فالشعوب تنتظر القائد الذي يحمي إرادتها وليس العكس، خاصة بعد سنوات عجاف لم تعرف فيها سوى الاستبداد.
دخلت الشعوب وممثلو الثورة في علاقة انتظار كل منهما للآخر أن ينقذه من السقوط، الشعوب في انتظار المخلص، والنظم الجديدة في انتظار غضبة الشعوب، وعاد الاستبداد من جديد بصورة أكثر شراسة عرقلت معها حركة الشعوب نحو بناء أوطانها من جديد، وانشغلت في توفير لقمة العيش بالكاد وهي تري آلافاً من المظلومين يدفعون ثمن محاولات الحرية دون ثمن يذكر.
تظل إشكالية العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي محور الصراع في معظم بلاد العرب، فلا ملامح معروفة لها، ولا علم تتبعه، ولا قواعد تحكمها، ومن هنا كان يجب الرجوع للتاريخ البعيد للبحث عن نسق واضح يمكن البناء عليه.
النسق الحضاري الإسلامي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم
هل هناك فترة زمنية محددة في التاريخ الإسلامي يمكن أن نطلق عليها أنها دون غيرها هي ما تمثل النموذج الإسلامي في الحكم؟ هل تمثل فترة النبوة مثلاً النموذج الأمثل في الحكم باعتبار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان نبياً معلماً قائداً مربياً حاكماً في الوقت ذاته؟ هل هي فترة الخلفاء الراشدين في المدينة بما أحاطها من علاقة مفتوحة بين الخليفة والرعية؟ فلا باب مغلق، ولا ديوان حكم، ولا ملابس ملك، ولا قصر يقف عليه ألف حاجب؟ أم هي فترة الحكم العضوض الذي يورَّث أباً عن جد، ليس للناس فيه اختيار، إنما بيعة بالقبول لا أكثر؟
جواب هذا السؤال نستقيه من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نظام الحكم: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة". ثم سكت.
النسق الحضاري الإسلامي الوحيد هو تلك الفترة من النبوة التي حكم فيها المدينة المنورة، ثم فترة الثلاثين التالية من النبوة، وهي حكم الخلفاء الراشدين، والتي تنتهي بموقعة "صفين"، تلك المعركة الفاصلة بين نوعين من الحكم أستطيع أن أطلق على الأول منهما حكم الإسلام المنشود، والثاني كان اجتهاداً بشرياً مستمداً من فهم الدين بصورة جزئية.
المفهوم الذي سنتعرض له في تلك المساحة هو العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام، ما هو إطار تلك العلاقة؟ ما هي ضوابطها وحدودها؟
الأطر المحددة للمعاملات الإسلامية
وضع الله -عز وجل- أموراً عامة للمعاملات أساسه العدل، فقال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء: 58].
في حديث موجه للنبي يقول عز وجل: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى: 15].
وعن الحاكم يقول تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج: 41].
وفي المعاملات الاقتصادية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء: 29].
والآيات في هذا الإطار لا تحصى، بدءاً بالحكم، مروراً بالدين وكتابته وأداء الشهادة والقصاص، وانتهاءً بأدق الأمور التي تحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع، والفرد بالحاكم والعكس، والفرد بنظيره.
الخلفاء الراشدون النموذج التطبيقي العملي
اعتمد أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- سياسة شرعية مع الرعية تنبني على الشورى، فعن ميمون بن مهران، قال: "كان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، فإن لم يجد في الكتاب، نظر: هل كانت من النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه سنة؟ فإن علمها قضى بها، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال: "أتاني كذا وكذا، فنظرت في كتاب الله، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم أجد في ذلك شيئاً، فهل تعلمون أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في ذلك بقضاء؟".
فربما قام إليه الرهط فقالوا: "نعم، قضى فيه بكذا وكذا"، فيأخذ بقضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال جعفر: وحدثني غير ميمون أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان يقول عند ذلك: "الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-"، وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم، فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به". رواه البيهقي "10/114″، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح "13/342".
أما عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكان العدل سبيله ومنهجه وغايته، إذا ذكر العدل ذكر عمر، والعدل يلزمه قوة تحميه، وتقوم عليه، وقد كان -رضي الله عنه- يتسم بهاتين الصفتين، فكان يهابه من تسول له نفسه الإقدام على ظلم الضعيف، ويطمئن إليه صاحب الحق.
أما عثمان -رضي الله عنه– فقد تميزت سياسته الشرعية بالعفو وعدم معاقبة من حاول الاعتداء عليه، فعن سليمان بن يسار: "أن رجلاً من بني تميم جلس لعثمان بن عفان -رضي الله عنه- بخنجر، فأخذه عثمان -رضي الله عنه- فسأل عنه علياً -رضي الله عنه-، واستشارهم فيه، فقالوا: بئسما صنع، ولم يقتلك، ولو قتلك قتل، فأرسله عثمان -رضي الله عنه-". رواه ابن شبة في تاريخ المدينة (2/245) بإسناد حسن.
من سياسة عثمان -رضي الله عنه- أن على الحاكم عزل كل من ثبت عدم صلاحيته للولاية، فقد كان أخوه لأمه الوليد بن عقبة أميراً على الكوفة، فعزله بسبب شربه الخمر. رواه ابن سعد (5/23).
وهذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الذي عاش بين رعيته كأقل فرد فيهم، فيقول عاصم بن كليب عن أبيه: قدم على عليّ مال من أصبهان، فقسمه على سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفاً فقسمه على سبعة، ودعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولاً.
قال هارون بن عنترة عن أبيه: دخلت على علي بالخورنق، وهو فصل شتاء وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً، وأنت تفعل هذا بنفسك؟ فقال: والله ما أرزأكم شيئاً، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة.
المواقف في حياة خلفاء رسول الله لا تعد ولا تحصى في الورع والتقوى والعدل والرحمة والقوة والثبات، وتلك هي الرعية التي انطلقت في الأرض فاتحة ترفع راية التوحيد في ربوع الأرض دون أن يمتد طرفها لمغنم دنيوي، أو يدخل حلقها شيء من حرام، ولم يمتد طرفها لما يغضب الله.
تلك هي أسس بناء حضارة ما زالت شواهدها تنم عن أعظم حضارة عرفها التاريخ، وما زال الإسلام يحمل عوامل بقائه، بل وما زال العالم في أمس الحاجة لهذا الدين ليخرجه من هلاك محقق، غير أن الدين في حاجة لرجال أمثال هؤلاء الذين خرجوا في فجر الرسالة ليعلموا الإنسان أنه يستطيع أن يسمو بإنسانيته ليسابق الملائكة في طهرها.
فمن لهذا الدين كي ينقذ البشرية من فعل الطواغيت بها؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.