منذ بدء الخليقة ونحن نعلم أن حوادث القتل هي التي يستخدم فيها القاتل أداة حادة أو سلاحاً، حبلاً للشنق أو سُمّاً، لكن في عصرنا الحالي، ومع الحوادث المتكررة للتنمر وسقوط ضحايا يومية جراءه، يبدو أننا لم نعد بحاجة لأدوات للقتل، فالكلمات وحدها تكفي لكي يتسبب البعض في إزهاق أرواح الآخرين!
"رودينا أسامة" طالبة الجيزة المتفوقة التي قتلها زملاؤها "تنمراً"، وحينما انتشر الخبر ذهلت العقول وتبادرت للأذهان الكثير من التساؤلات التي سنجيب عنها في مقالنا الحالي.
ما الحكاية؟
كالنار في الهشيم، هكذا انتشر خبر وفاة طالبة تدعى "رودينا" تبلغ من العمر 16 عاماً، الفتاة كانت طالبة بالصف الأول الثانوي، متفوقة علمياً وترتيبها الأول على صفها دائماً، ويشهد لها الجميع بحسن الخلق والسلوك الطيب، لكن على ما يبدو فإن هذا الأمر يزعج البعض، وكما أن لكل ناجح عدواً، ولكل تفوق ضريبة، فلقد عانت "رودينا" من تنمر زميلاتها في الصف ضدها واللواتي لم يقصرن في التنمر ضدها بكل وسيلة، بدأ الأمر بكتابة زميلاتها أسماءهن على مقعد رودينا الخاص، وازداد الأمر شيئاً فشيئاً، في البداية صمتت رودينا ولم تصدر أي رد فعل، ومن ثم بدأت تشكو الزميلات للمعلم والإدارة، ولكن دون جدوى أو رادع لهن، استمرت الفتيات في تنمرهن، غير أن الأمر ازداد سوءاً، فلم تتوان الفتيات عن إسماعها كل ما يسم البدن مثل "هو إنتي بتحسي؟"، "إنتي إزاي مستحملة شكلك ده، إنتي مش شايفة عاملة إزاي"، وحتى حينما كانت رودينا تحاول اللعب معهن أثناء الفسحة المدرسية، كانت الفتيات المتنمرات يقمن بصدها والتنمر عليها قائلات: "إنتي مش من مستوانا"!
عادت رودينا للبيت وهي تبكي حد الانهيار، حاول والدها التخفيف عنها وإخبارها أن هذا أمر متكرر يحدث بين جميع الطلاب في كل زمان ومكان، ووعدها أنه سيتقدم بشكوى لإدارة المدرسة ضد هؤلاء الفتيات، غير أن ذلك لم يفلح في تهدئة روع رودينا، ويبدو أن الكيل قد طفح ولم يعد لديها القدرة النفسية على التحمل.
التنمر الذي أفضى للموت
أغلقت رودينا على نفسها الغرفة وهي منهارة في البكاء، رفضت أي طعام أو شراب، تحدثت معها أختها، فبادرتها رودينا بالسؤال: "هو أنا فعلاً شكلي وحش؟!"، نفت أختها ذلك وأخبرتها أن جمالها يضاهي القمر، لكن يبدو أن رودينا كانت منهارة نفسية للحد الذي لم يعد يداويها أي كلام أو يخفف عنها حجم المعاناة! وما هي إلا ساعات قليلة حتى أردى الحزن والقهر رودينا أرضاً مغشياً عليها، لتتوفى في الحال إثر أزمة قلبية حادة نتيجة التنمر الذي تعرضت له تلك الفتاة الرقيقة التي لم يتحمل قلبها تنمر زميلاتها، وتجاهل المدرسة شكوتها، لتصعد روحها الطاهرة لبارئها شاكية له ظلم البشر وتنمرهم!
ملامح شخصية "رودينا" ضحية التنمر
بحكم عملي كأخصائية للموهوبين والمتفوقين، ومن خلال قراءتي وتحليلي للواقعة، فيبدو أن رودينا الطالبة المتفوقة علمياً تمتلك حساسية شخصية عالية- وهي من سمات المتفوقين- مما يجعلهم يتأثرون بأبسط كلمة تقال في حقهم، ويهتمون كثيراً برأي الناس فيهم وطريقة تعاملهم معهم، مما يزيد من معاناة الطلاب أصحاب تلك الشخصيات، ويشعرون أنهم غير مرغوب بهم، وأن الجميع يكرههم، وأن تفوقهم سر تعاستهم، أو شكلهم غير كافٍ ليجعل الآخرين يتقبلونهم ويحبونهم، مما يدفع الطالب للفشل الدراسي "عمداً" لكي يكون في مستوى بقية زملائه بالصف ومحاولة منه لاسترضائهم، أو فعل كل ما يطلب منه في مقابل أن يسمح له زملاؤه باللعب معهم، وبالطبع لن يتقبله زملاؤه المتنمرون، مما يدفع الطالب للانطواء والعزلة النفسية والاجتماعية وقد يصل لاكتئاب حاد، وبكاء مستمر، كره للدراسة، والتفكير بالموت للتخلص من الحياة، أو يقع ضحية تنمر الآخرين إن كانت شخصيته هشة نفسياً ولا يملك القدرة على المواجهة والتعامل مع المتنمرين كما حدث مع حالة رودينا للأسف.
التفسير العلمي للحدث
ذكر المختصون أن ما حدث مع "رودينا" يسمى بمتلازمة القلب المكسور، حيث يمكن لحدث عاطفي أو حدث صادم للغاية أن يسبب انقباضاً في جدران الشريان التاجي للقلب، وحدوث فشل للقلب على المدى القصير مما يفضي للوفاة.
هل دعم الأهل وحده كافٍ؟
إذا كانت توجد علاقة طيبة مبنية على الصداقة بين الأسرة والأبناء، بما يسمح لهم بسرد تفاصيل يومهم لأسرهم، وتمكن الأسرة من متابعة أبنائهم عن قرب، فإن هذا يسهل عملية التدخل المبكر وتوجيه الأبناء وإرشادهم، أو التدخل المباشر واتخاذ الإجراءات المناسبة إذا لزم الأمر. لكن في الحالات المغايرة لذلك، فللأسف دعم الأهل وحده لا يكفي في مثل تلك الحالات المشابهة لرودينا والتي تم التدخل فيها متأخراً فلم يجد نفعاً مع الفتاة، وفي الغالب يحتاج الأبناء ضحايا التنمر إلى تكاتف الجهود، وتعاون مشترك بين الأسرة، والمدرسة، والأخصائي النفسي، وأخصائي التفوق العقلي لعمل برنامج متخصص لدعم الطالب، وتقوية مناعته النفسية وقدرته على المقاومة، وذلك فور اكتشاف الأمر.
هل المتنمر قاتل؟
أجل، قد يكون المتنمر قاتلاً أو شريكاً في القتل، وذلك مثلما حدث مع رودينا، فهو قاتل للجسد والنفس، فالتنمر يدمر الحالة النفسية للضحية والتي أفضت إلى وفاته على إثرها، وذلك وفق ما ذكره المختصون.
ما الفئات الأكثر عرضة للاكتئاب بسبب التنمر؟
تعد مرحلتا الطفولة والمراهقة الأخطر على الإطلاق في تعرضهم للاكتئاب على إثر التنمر، حيث إنهما مرحلتا تكوين الشخصية للطفل والمراهق، وتكون صورته عن نفسه غير ثابتة، وبالتالي يعتقد أن كلام المتنمر عنه بمثابة الحكم عليه، فإذا قال له المتنمر إنك سيئ، فيعتقد الطفل أو المراهق أنه كذلك بالفعل، وينعكس ذلك على ثقته بنفسه بشكل واضح جداً، ومن ثم يكتئب ويفقد رغبته بالحياة، معتبراً الموت هو الخيار الأفضل له، وذلك وفق ما ذكره أطباء علم النفس.
كيف نحمي أطفالنا من خطر التنمر؟
أولاً: دور الأسرة
يجب مراقبة سلوك المتنمرين وتهيئة الطفل نفسياً لاحتمالية تعرضه للتنمر بالمدرسة وغيرها، مع التأكيد على التربية بالقدوة، فلا يتنمر الوالدان على طفلهما أو الآخرين، ويرشدان طفلهما للسلوك القويم والخلق الحميد، مع ضرورة تعزيز السلوك الجيد لدى الطفل إيجابياً، وتنبيه الطفل وتوجيهه لتجنب السلوكيات الخاطئة ومعاقبته عليها بشكل تربوي سليم.
كما يجب أن ينتبه الأهل لسمات أطفالهم الشخصية، والتعامل معهم بما يناسب شخصيتهم، فالطفل ذو الشخصية الحساسة له معاملة خاصة لا تناسب غيره، وينصح ببناء علاقة صداقة قوية بين الأسرة والطفل بما يسنح للطفل أن يخبرهم بكل حرية عما يحدث معه، وبما يجعلهم على اطلاع دائم بما يحدث معه، وسرعة التدخل إذا لزم الأمر، أو طلب الدعم من المختصين عند الضرورة.
ثانياً: دور المدرسة
يجب على إدارة المدرسة أن تأخذ شكوى الطلاب على محمل الجد وتتحقق من الأمر وتعمل على علاجه، ويجب تفعيل دور الأخصائي النفسي والاجتماعي بالمدرسة، فما حدث مع رودينا يدل على غياب دور المختصين بالمدرسة، ويجب أيضاً أن تعمل على ملء فراغ الطلاب بالنشاطات المختلفة والمفيدة، والتركيز على منظومة القيم وأهمية التحلي والتعامل بها بين جميع أفراد المدرسة، بدءاً من المدير حتى أصغر فرد بها، ونشدد على ضرورة مراقبة الطلاب المتنمرين والتعاون مع الأهل والمختصين بالمدرسة على تقويم سلوك المتنمرين وعقابهم بالأسلوب المناسب تربوياً وعزلهم إذا لزم الأمر، وعقد ندوات علمية لتوعية الطلاب وأسرهم حول التنمر وخطره وكيفية التعامل معه وحماية أنفسهم من المتنمرين.
ثالثاً: دعم المختصين
يجب على الأهل أن يطلبوا الدعم من المختصين، مثل الأخصائي النفسي، والاجتماعي، وأخصائي الموهبة والتفوق العقلي، حيث إن التدخل المبكر يسهل علاج المشكلة في بدايتها، ويجب التوعية بأهمية دور أخصائي الموهبة والتفوق العقلي والذي يعمل على تصميم برامج لدعم هؤلاء الطلاب أمثال "رودينا" تربوياً ونفسياً واجتماعياً، والعمل على تنفيذه بدعم من الأسرة والمدرسة.
رابعاً: دور المجتمع
للدولة دور هام جداً متمثل في مؤسساتها المختلفة كالمجتمع المدني والتضامن الاجتماعي ومراكز الشباب والرياضة والأوقاف، بجانب الصحافة والإعلام فلهما دور هام وكبير جداً في توعية الناس ضد أخطار التنمر وكيفية الوقاية منه والتصدي للمتنمر، وعقد ندوات علمية، وورشات تدريبية، واستخدام البرامج التلفزيونية والإعلانات في التوعية ضد خطر التنمر لكيلا يتكرر مثل هذا الحادث المفجع. كما يجب على الفنانين أن يركزوا جهودهم على تقديم أعمال تحاكي الواقع وتقدم حلولاً فعالة لعلاج تلك القضايا، إضافة لضرورة أن تشدد الدولة العقاب الرادع للمتنمرين، حتى لا يتجرأ غيرهم على الإتيان بمثل هذه الأفعال مرة أخرى.
ختاماً، فكما رأينا، كلمة واحدة قد تقتل إنساناً وهو لا يبالي بما فعل، لذا على الأسر الانتباه لسلوكيات أبنائهم وعدم تربية "فراعين" صغار يقتلون الناس بتنمرهم واستعلائهم، ويجب كذلك بناء علاقة قوية بطفلك، فذلك يساعدك على التدخل المبكر والذي قد يكون سبباً لنجاته، وستظل قضية "التنمر" بحاجة لجهود مكثفة من كافة أطياف المجتمع للتصدي لها حتى لا تزهق روحاً بريئة جديدة، مثل "رودينا" التي نعتذر لها نيابة عن كل المتنمرين، ونتمنى أن تجد روحها من الجنة مأوى لها وسلاماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.