السياسة والقيمة والجمال عناوين تُشكل أهمَّ الوسائل في أي حضارة إنسانية، وتتعاطى معها الدول بشكل مختلف، بحسب المرجعيات الدينية والفكرية، ولهذه العناوين تعريفاتها وامتداداتها.
فالسياسة حديث المصلحة بكل قسوة أحياناً، والحرب امتداد للسياسة، وبكل شراسة دائماً، وكل من يُحدّثك في السياسة فعينه حمراء مهما لمعت أسنانه، ويُسراه على الزِّر مهما كانت يُمناه ممدودة.
القناعة شرط في السياسة، لكن الذوق والجمال يُنجزان ما يعجز عنه العقل والمنطق. أما الجمال والذوق فكلاهما امتداد لخطاب المشاعر وحديث المحبة، وهي مثل الرصاصة "خارقة حارقة"، فالإنسان ينجذب لمن يحبه أكثر ممن يُقنعه أو يهدده، والمرء عبيد الحب والإحسان.
تبقى الأخلاق والقيم إكسير الحياة، وشرط استمرار كل حضارة، وسر عجينتها، إذا لم تتجاوزها السياسة، ولم يحجبها الجمال حين يصطدم مع الحقيقة، لا يمكن إنكار أن الغرب في القرن الأخير هو صانع النهضة، في كل مجالاتها العلمية والأدبية، وهي الحقيقة التي نشعر بها جميعاً ونعترف بها دون مكابرة.
فنحن نقتاتُ على منتجاته في حياتنا اليومية، وفي كل المجالات العلمية، والفنية والأدبية، لكنه ترك فجوة غائرة مازالت هي نقطة العجز، وهي اختبار الضمير والقيم الإنسانية، ومادة التماسك الأسري والمجتمعي، والمادة الحية في العلاقات الإنسانية، وهي "القيم والأخلاق".
فلا يكفي خطاب المنطق، ولا القوانين ولا الحقوق، لمواجهة الشهوة والجريمة، فالرادع والحارس هو خطاب الضمير الحي، وفي خضم الثورة الصناعية الكبرى، استغنى الغرب عن الأخلاق، وبنى حاجزاً بينها وبين العلم، بعد قرون، منذ "سقراط" الذي اعتبر أن "الفضيلة هي المعرفة والقيم الأخلاقية العليا" رداً على "السوفسطائيين"، إلى المدينة الفاضلة لـ"أفلاطون"، إلى "جان لوك" الذي كتب "كتاب التسامح".
حتى بدأ يطفو على السطح إشكالية الفنون والعلوم وعلاقتهما بالأخلاق، فحين طرح "أفلاطون" سؤال المسابقة الشهير:
"هل عندما تتطور العلوم والفنون تتطور الأخلاق في المجتمع، أم العلاقة عكسية"، وأجاب عنه "جان جاك روسو"، وفاز في المسابقة الكبرى التي رَفعت من سمعته، وقذفت به إلى عالم الأفكار والشهرة. وأصبح هو مفكر الثورة الفرنسية، وكتب كتابه الشهير "التربية".
لكن رجال الدين أفتوا ضده، ومنع البرلمان صدور الكتاب، وتعقّب "روسوا" الذي ظل هارباً متخفياً.
حرب على الدين والأخلاق
لقد حارب الغرب الدين والأخلاق معاً، وسقط ضمير الإنسانية في الشهوة والجريمة، وأُعْدِم "سقراط" مُتجرِّعا السُّم بيده، وبِيع "أفلاطون" في سوق النخاسة، ومات "أرسطو" هارباً.
ظلت الأخلاق في أوروبا يتيمة تتسكع في الشوارع، يتناولها الشعراء في أشعارهم، والبسطاء في أشكالهم، وفصلوا بين العلم والأخلاق، فأصبح العلم يمثل المَدَنية والحضارة، والأخلاق تمثل الفقر والتخلف، وقد قارب مالك بن نبي الوصف حين قال:
"يريدون للعلم أن يمثله الرجل الذي يستيقظ الثامنة صباحاً ويذهب إلى عمله في سيارته، وفي يده محفظته الفخمة… ويترك الأخلاق للرجل الذي يستيقظ على السادسة صباحاً ويذهب إلى عمله سيراً على الأقدام أو على دراجة، وغذاؤه في كيس الورق".
استقر عند الغرب أن الخروج عن الأخلاق حرية، ومخالفة القانون جريمة، أو على ما ذهب إليه السياسي الفرنسي تاليران حين قال: "إن الغرب يسوق لسياسته بأن الخطأ أقبح من الجريمة".
لقد استعاض الغرب الأخلاق بالحرية الشخصية، وقدموا الجمال على الحق، واستدركوا أن لغة الفن وحديث القلب وملامسة المشاعر ملهمة للشعوب ومتجاوزة للثقافات، فاتجهوا إلى السينما التي ترسخ الصورة، والآلة الإعلامية لافتراس الحقيقة، وارتفع صوت الوَتر، فرقص على أنغامه الجوع والفقر، على ضفاف نهر "الغانق" في الهند، وفي أحياء القاهرة بمصر، وعالمنا العربي يعيش حالة القهر، والغرب يعيش حالة الغنى والسكر والبتر.
لقد جرَّب الغرب كل الخيارات، والبداية بالحرب التي حسم بها الجغرافيا السياسية، والجغرافيا الاقتصادية، وحرب الجغرافيا لا تقبل الخسارة، فقد قضت الحربان العالميتان الأولى والثانية على 65 مليوناً من البشر، رسم الغرب فيها حدود الدول ووضع يده على منافذ الثروة.
يكفي أن أمريكا تعيش على طبع الدولار دون مقابل من الذهب، وعلى الحروب وحماية الدول الغنية بمواردها الفقيرة بإدارتها لهذه الموارد، ثم اتجهت إلى غزو عقول وقلوب الشعوب، وعرف كيف يختار وسيلتة لتسويق منتجاته الفكرية والثقافية، فاختار لغة الأدب والفن والجمال، أو بعبارة "مالك بن نبي":
"فقد اتجه إلهام الثقافة في عصر النهضة الأوروبية نحو الذوق الجمالي أكثر من أي شيء آخر".
هل الجمال وجه الحضارة الغربية؟
صار الجمال هو وجه الحضارة الغربية، والذوق والفن وسيلتهم للتأثير على مشاعر الناس، وأصبحت هذه المعاني هي مصدر إلهام للسَّاسة، حين يعجزون عن إقناع خصومهم، فيتجاوزونهم ويتجهون إلى مخاطبة الجماهير واستماتهم، ويهتمون كثيراً بنسبة تأييد شعوب الدول لسياساتهم.
كما كانت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون سابقاً تحرص على لقاء النّاس في الساحات، والطلبة في مدرجات الجامعات، وبرامج التلفزيون العامة، وجعلتها فقرة أساسية في برامج زيارتها، ولا تتوانى عن الحديث الذي يملامس المشاعر، وحتى عن حياتها الخاصة، ونظرتها للأشياء كإنسانة.
تُعبِّر في "مُذكراتها" عن التأثير البالغ في نفوس الحاضرين عندما تخرج عن السياق السياسي، ليتحول الحديث عن الإنسان ومشاعره، وتروي مرَّة عن قصة وصولها إلى "بريشتينا" عاصمة "كوسفو". فتقول:
"اصطفت الحشود المتحمسة على طريق المطار، وقد اعتلى أحياناً الصغار أكتاف الكبار، واضطر موكبنا للتوقف عند وصولنا إلى ساحة المدينة التي كان يعلوها تمثال ضخم لـ"بيل كلينتون" زوجها، وقد أسعدني ذلك، فقفزت من السيارة وبدأت بالمصافحة والعناق، ولمحت قبالة الساحة دكاناً رائعاً صغيراً لبيع الألبسة حمل اسمها "هيلاري"، لم أقاوم رغبتي في زيارته، وقال صاحب المَتْجر إن المحل قد حمل اسمك "هيلاري"، لكي لا يشعر "بيل" بالوحدة في الساحة.
تتحدث عن هذه المواقف وهي تتحسر على أيام بوش التي أثّرت على العلاقات الأمريكية، وتراجع الرأي العام بسبب حرب العراق، وقد كانت في زيارة من أجل إقناع الرئيس الصربي المتوحش "ميلوسوفيتش" بوقف الحرب، وإعطاء الاستقلال لإقليم "كوسوفو"، فقد كانت تحرص في كل زياراتها أن تتعرف على وضع المرأة، وتسمع اهتماماتها الخاصة، وربما تكون خارج السياق السياسي.
في فصل آخر من مذكراتها تقول: "إن امرأةً سألتني عن حياتي العاطفية، وكيف بدأت علاقتي مع بيل"، استطردت معها في الحديث، وحكت القصة كاملة من بداية لقائها مع زوجها، وهما طالبان في الجامعة، حتى صار رئيساً، وهي السيدة الأولى لأكبر بلد، فقد كان حديثاً مُلهما للحضور، وإطلالة على الجانب الإنساني الذي يعطي انطباعاً عن الطهر الأمريكي!
لقد أدرك الفكر الغربي أن حديث الحب والجمال هو الأبلغ تأثيراً في حياة الناس، وهو الذي يبهر العيون ويأسر القلوب، والكثير من يضحي بالحق والمنطق من أجل الذوق والهوى والجمال والحب، حتى مع السياسيين أيضاً، فقد لعبت الصداقات الخاصة بين الزعماء دوراً حيوياً في حل النزاعات، كما أحدث الخطأ البروتوكولي كثيراً من الأزمات.
"بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره"
لقد ظلت رؤيتنا للغرب مثل نظرة الأحول والأعرج، مثل القصة التي رواها "تاليران" "الثعلب الأعرج"، كما كان يصفه الفرنسيون، لشدة ذكائه ومكره، حين التقت به امرأة في عينيها حَوَل، وأرادت أن تسخر منه بالإشارة إلى مشيته على رجله العرجاء، فقالت له: "كيف ماشية أمورك"؟، فأجابها على الفور: "مثل ما أنتِ شايفه".
لقد أحدثت الحروب زلزالاً وتصدعاً كبيراً في الأمة الإسلامية، لكن الهزات الارتدادية السياسية، التي مست الحالة الفكرية والثقافية، كانت أبلغ تأثيراً في الشعوب، فمازالت أجيالنا في حالة من الدهشة والانبهار، وأنظمتنا في حالة من التبعية.
لسان حال الأنظمة الإسلامية اليوم يقول إنه لم يبقَ لدينا من الخنوع ما نتقرب به إليكم، ولا من قرابين ثروات بلادنا ما يلبي طلباتكم، ولم يبقَ لدى شعوبنا من الغفلة لتصدق تناقضات الغرب، وانتهى الكل إلى حالة من الوعي الجمعي، وأصبح مشهد ضمور الحِسّ الإنساني وموت الضمير لدى قادة الغرب لا يحتاج إلى بيان.
مرت علينا أحداث وحروب وزلازل مادية وأخلاقية اختصرت كثيراً الزمن، وجعلتنا نقترب كل يوم من نقاط الاحتكاك، وكثير من نقاط التّماس والتداخل مع الشعوب الغربية، ووجهاً لوجه مع قادتهم.
أمام كل هذه الخيارات يقولون إن "الأزمة تلد الهمة"، والبشرية بدأت تتلمس الهمة لدى حضارة الشرق في معاني العدل والحق، وقيم الأسرة والمجتمع، بعد الأزمات التي لحقتها من الظلم الذي حاق بها من الغرب، وخصوصاً في فلسطين، والكيل بمكيالين في مواضيع الحرية والحقوق.
كأن البشرية تترقب النور الذي سيبزغ من الشرق، نور الإسلام وعدله وجماله، الذي يملك مفتاح العقول وسحر القلوب، ويقود إلى حالة التراحم والتعايش والتلاحم بين كل عناصر الخير في البشرية.
ربما أسرفت الحضارة الإسلامية في الأخطاء السياسية منذ معركة صفين وحادثة الجمل، فسالت دماء غزيرة، وحدث لها سقوط أخلاقي أضاعت بسببه فردوس المسلمين بالأندلس، وبسبب فهم عقيم وفكر دخيل ومتطرف لوثت دماء الفتن حبر الأدب والفن، وحجب الغبار المتطاير من الخلافات والأمة تتخبط بين أدعياء العمل المسلح، حتى استنفذوا حماقتهم، و"بهلوانات" العمل السياسي حتى أشبعوا نهمهم.
لم ترَ شعوب العالم إلا المشاهد المؤلمة، من الفقر والقمع، ووقف الغرب على هذه المشاهد كأنما ينظر إلى محمية من الحيوانات وليس البشر، فلم تتلمس منا البشرية الحق، ولم يروا فينا الجمال، وعجز المفكرون والمثقفون أن يقدموا صورة الحضارة الإسلامية في صورتها البهية النقية، التي تهدف إلى الحق والعدل، وتقوم على الحجة والعقل، وتنطبع بالجمال، وتُلامس الروح والقلب.
إن مبتدأ رسالتنا ومنتهاها هو "المبدأ الأخلاقي"، حيث جاء الإسلام ليجعل منها العنوان الكبير، "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فهي امتداد للطبيعة والفطرة الإنسانية، "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله"، وحياة للضمير "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره"، وانسجام مع باقي مخلوقات الله "ولقد آتينا داودَ منا فضلاً يا جبال أَوِّبي معه والطير".
جاء الإسلام وحضارته ليحفظ كرامته "ولقد كرَّمنا بني آدم"، ويمنحه الحرية "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" حديث عمر بن الخطاب، ويرفع الظلم ويحقن الدماء، "من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً".
فهذه الحقوق لكافة الخلق وليست للمسلمين فقط، وواجب المسلم أن يؤديها لكل الناس، وقد لعب المسيحيون دوراً في بناء الدولة الإسلامية، مثل أقباط مصر وموارنة لبنان، واعتلوا مناصب عليا في الدولة.
كما حظي اليهود بأفضل معاملة في ظل الدولة الإسلامية، في حين واجههم الغرب بالمحرقة، التي صارت المظلمة التي دفعت جريرتها الأمة، وأصبح اليهود خنجراً في صدرها، لتكون بداية أزمة عميقة في الأمة مازالت الإنسانية كلها تدفع ثمنها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.