الثالثة بعد الظهيرة موعد لم يكن أبي يخلفه أبداً، كنت أتعمد الصعود إلى سطح منزلنا لأراه قادماً من بعيد ينفث دخان سيجارته، بينما ينحدر في مشيته متجاوزاً شجرة الجميز العجوز التي تتوسط الطريق بين صعدة أولاد أبي عريضة، وحديقة أولاد وتد.
طقس يومي أمارسه بصعودي لمشاهدته والنداء على أمي لتنبيهها لعودته، لم يكن الرجال في ذلك الوقت وقبل ما سمي بالانفتاح الاقتصادي يحتاجون إلى أكثر من دوام، لذا كانوا بيأوبون إلى بيوتهم قبل صلاة العصر.
مساحات العلاقات وجلسات الرجال كانت تشكلنا وتشكل قيمنا، سحر تلك التجمعات المتفرقة أمام الأبواب، كل يستضيف بعض رفقائه وجيرانه يتنقلون إليه أو ينتقل هو إليهم، ونحن الأطفال حولهم نلعب ونحاكي، ويتشكل وعينا.
كنت محظوظاً إذ أدركت ذلك الزمان، وكنت مسحوراً بشاعر الربابة الذي يدور على تلك المجالس أنتقل خلفه من أمام دارنا لدار عم سيد الصعيدي، وأتابع معه سيرة الأميرة ذات الهمة، في الراديو كنت أتابع السيرة الهلالية، حروب عربية عربية، ولكن هنا سيرة بطولات وثورات ومؤتمرات.
ما زالت كلماته وأشعاره عن تلك المجاهدة التي تحمي الثغور عالقةً برأسي، ولكن أغرب ما استقر من ذكريات تلك السيرة عندي، كان ترديده لخيانة عقبة شيخ الضلال، مفتي قبيلة بني كلاب، الذي رسم تفاصيل شخصيته بدقة كمنافق يتلاعب بسياسات الخلافة، يظهر الإيمان والتنسك، وهو مؤمن بوحدة الأديان وتوحد الوجود، فهو يتلاعب بالأمراء ويوردهم المهالك، يصلي بهم ويتسلل إلى حجرته ليشرب الخمر ويأكل من لحم الخنزير، ويدرس علماً باطناً لتلامذته ويدربهم على نصب الفخاخ لأمراء بني كلاب، ويستعدي عليهم الروم تارة، وتارة يستعديهم على بعضهم البعض.
عندما شاهدت افتتاح البيت الإبراهيمي في الإمارات، وما ثار من جدل حول ما يسمى بالديانة الإبراهيمية، عدت بذاكرتي إلى ذلك الشاعر وهو يسرد قصة عقبة، ورحت أبحث عن مسيرة وحدة الأديان، ووحدة الوجود ولم أكن من قبل ممن يحفلون بتلك الأفكار، وفي رحلتي خلال الأيام الماضية للبحث وجدت أن الطريق إلى بناء البيت الإبراهيمي قديم قدم الفتوحات الإسلامية.
مع اختلاط المسلمين بالشعوب الأخرى عبر الفتوحات ودخول هذه الشعوب في الإسلام كان له أثر كبير في نشأة بعض التيارات الفلسفية كان أخطرها تيار التصوف الفلسفي، ففي التراث الصوفي الفلسفي إشارات إلى وحدة الأديان باعتبارها نتيجة طبيعية لوحدة الوجود، فنرى بن عربي وهو من كبار الدعاة إلى وحدة الوجود، يقول:
عقد الخلائق في الإله عقائد . . . وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه
لم يكتف بن عربي بأشعاره العديدة التي تنادي بأن الأديان كلها واحدة، بل راح يحذر أتباعه من الإيمان بدين خاص، فنجده يقول لهم "فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص، وتكفر بما سواه، فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه، فكن لنفسك هيولي لصور المعتقدات، فإن الله أوسع من أن يقبله عقد دون عقد"، والمقصود بـ "هيولي" هو القابلية لاعتناق كل المعتقدات وقبولها.
منطق عدم التفريق بين المعبودات عند غلاة المتصوفة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بوحدة الأديان ووحدة الوجود، فكل معبود يعبده عابد هو في الحقيقة شكل من أشكال الإله المتحد في الوجود كله، وبذلك تكون كل الأديان صحيحة.
تظهر هذه الرؤية الفلسفية عند غلاة المتأخرين من أتباع هذا المذهب في ثلاثة مظاهر، وهي "وحدة المعبود حقيقةً وواقعاً، يجوز أن ندين بأي دين، كل الناس مؤمنون ومآلهم إلى النعيم بغض النظر عن عقائدهم وطرق عبادتهم".
في كتابه "ظهر الإسلام" يقول أحمد أمين – وقالوا: "إن كل دين وإن اختلف في مظهره، فإنما يكشف في ناحية معينة من نواحي الحق، فالإيمان والكفر لا يختلفان اختلافاً جوهرياً، واليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام متفقون في عبادة إله واحد، والقرآن والتوراة والإنجيل منتظمون في سلك واحد، هو سلك التنظيم الإلهي".
التطور الأول والبدائي لاستخدام وحدة الأديان ووحدة الوجود من ساحة الفكر الديني إلى ساحة الاستخدم السياسي جاء على يد السلطان المغولي "جلال الدين أكبر"، الذي ورث ملكاًً محاطاًً بالأعداء ومملكة مهددة بالضياع، فبعد أن أضاع والده الدولة التي ورثها وهرب مستنجدا بالصفويين لاسترداد ملكه، جاء الابن ليسترد الدولة بل ليتوسع على حساب جيرانه من المسلمين والهندوس على حد سواء، ولتصبح المملكة المغولية في الهند على يديه هي الأقوى والأكبر والأكثر ثراء.
لكنه كان يعي خطورة المزيج العقائدي لسكان الدولة التي يحكمها، ورغم أنه راح يتزوج من بنات الهندوس والمِلل الأخرى ووسع دائرة الحريات الدينية في دولته، إلا أن شعوره بالخطر جعله ينتقل إلى فكرة أخرى، وهي محاولة توحيد الأديان في دين جديد أطلق عليه "الدين الإلهي"، وكان قد استبق هذه الخطوة عام 983 هجرية ببناء بيت للعبادة الموحدة سماه "عبادة خانة".
كانت "دار العبادة" أو عبادة خانة مجرد منتدًى للنقاش الديني بين العلماء والفقهاء وغيرهم من الرهبان والأحبار ورجال الدين من مسلمين ويهود وهندوس ونصارى ومن خلال المجادلات الدينية التي كان يحرص على حضورها بنفسه صاغ فكرة "الدين إلهي"، وهو خليط جمع فيه بين التوحيد الإسلامي والتصوف القائم على الهندوسية والزرادشتية، وهو تصوف فلسفي، وأضاف إليه خليط من الأديان الأخرى.
بدأت الفكرة إذاً دينية عندما تأثر بعض المتصوفة من المسلمين بالفلسفات الوافدة إلى دار الإسلام، واستغلها "جلال الدين أكبر" في محاولة لإخضاع العرقيات والإثنيات المختلفة في بلاده لحكمه، واليوم تطل علينا الفكرة من جديد في افتتاح بيت عبادة مشترك بالإمارات، فهل ثمة علاقة بين البيتين؟
"جلال الدين" كان يعمل لصالح استمرار ملكه ودولته، لصالح مجده الشخصي وعرقيته المغولية، فلمن يعمل منشئو البيت الإبراهيمي؟ وما علاقة هذا البيت بصفقة القرن؟ وهل هناك شيء اسمه الديانات الإبراهيمية، أسئلة نطرحها لنجيب عليها لاحقاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.