كنت في طريقي إلى توصيل طفليَّ إلى التمرين، وما إن دلفنا إلى السيارة، حتى أخرجت هاتفي، لأستكمل حلقة من مسلسل بالطو، كنت أشاهدها قبل النزول، في الواقع لم أحتمل الانتظار حتى أعود إلى البيت، سارت السيارة قليلاً، قبل أن يتوقف السائق ليرى ما حدث في الخلف، تصور الرجل أنني أختنق، قبل أن أتصنع الجدية، و أطمئنه أنه لا بأس، أنا بخير، سار مرة أخرى، وكتمت الضحكات من جديد، قبل أن أصل إلى وجهتي، في تلك البقعة الخالية، وبمجرد أن رحلت السيارة، انفجرت في نوبة ضحك شديدة، لم أضحك مثلها منذ وقت طويل، حتى إن صغيريَّ ظلاَّ يرمقانني متسائلين عما حل بتلك السيدة المتجهمة طوال الوقت، هل تستطيع الضحك حقاً؟
في الواقع، لم أضحك منذ وقت طويل، لا الأحداث الجارية، ولا الأجواء العامة، ولا حتى حالتي النفسية، تشجعني حتى على الابتسام، لكن "بالطو" فعلها، بطريقة غريبة، فانتزع الضحك من قلب الكآبة، خرج كضحك مُدخّر، عميق، وصادق، وكثيف، ضحكت حتى سعلت، ودمعت عيناي، ثم جلست لأستجمع نفسي وأفكر، كيف نجح المسلسل في إضحاكي بهذا الشكل؟
نجاح مسلسل بالطو.. لأنها كوميديا سوداء نادرة الوجود؟
الكوميديا السوداء، هي الفكاهة التي تدور حول أحداث غير فكاهية، كالموت، والفقر، والجريمة، هكذا نتورط جميعاً في الضحك على مأساة طبيب شاب، تخرّج لتوه، فصار فجأة مديراً لوحدة صحية، في قرية ريفية بعيدة، نتورط في الضحك على مآسي الروتين، وأزمة البيروقراطية، هكذا ضحكت حين سقطت "المروحة" على رأس طبيب الوحدة الصحية فقتلته، وضحكت حين هرب الطبيب من تأدية مهام عمله، وغيرها من المواقف التي يفترض أنها مبكية في الواقع.
هذا نوع نادر الوجود من الكوميديا، لن تلمحه بتلك الجودة في الأعمال العربية عموماً، لهذا أعتبر هذا المسلسل بالذات علامة، ولهذا ربما ضحكت بعمق، لأنه ينتزع من صدرك ضحكات غريبة، تضحك على مأساتك الخاصة أيضاً، كوميديا ليست قائمة على إفيهات متقنة، أو مفارقات رخيصة، أو سخرية من بدانة أحدهم أو عاهته، ضحك من قلب المأساة، من موقف لا يحتمل الضحك، هنا تكمن عبقرية بالطو.
لأن مؤلف مسلسل بالطو أحمد عاطف مثلاً!
كثيراً ما أصابني الغثيان من الأعمال الدرامية التي تصور حياة الصحفيين -لأنها مهنتي-، فتظهر الصحفي في الغالب كشخص سخيف متطفل، عديم الكرامة، وباحث عن التفاهة، أو تفرط في إضفاء الجدية عليه وتعظيم أحواله، وما بين هذه وتلك، لم أر ولو لمرة واحدة صحفياً حقيقياً على الشاشة، كذلك الأمر مع أكثر المهن تقريباً، ذلك أن من يكتبون، لا يعرفون حقاً عما يكتبون، وهنا أيضاً نقطة نجاح أخرى، فعلى الرغم من أن مسلسل بالطو هو العمل الدرامي الأول لمؤلفه أحمد عاطف، إلا أن الشاب الطنطاوي، كتب "عما يعرف حقاً" وعما "عاش" ربما لو كتب الكاتب نفسه عن حياة الصحفيين، أو النجارين، لما نجح بالقوة ذاتها، لأنه من أهم قواعد الكتابة الناجحة "أن تكتب عما تعرف".
نجح أحمد عاطف، على أكثر من مستوى، نجح عبر صفحته الشخصية التي حظيت حكاياته خلالها على آلاف المتابعات والتعليقات، وحظيت قصصه التي قدمها من جديد عبر كتابيه "بالطو وفانلة وتاب" و"الإنس والجبس" بالنجاح، ثم نجحت حكاياته -لصدقها وما بها من مفارقات- للمرة الثالثة، حين خرجت في صورة عمل درامي، يتحدث عن تيمة طبيب الأرياف، تلك التي سبقه إليها أدباء كبار مثل أحمد خالد توفيق، ومحمدالمنسي قنديل، إلا أنه استطاع أن يضيف إليها بعداً جديداً، يتعلق بالتفاصيل الدقيقة، التي ربما لم يكن يعرفها المشاهد من قبل، والتي تقترب بطريقة مفزعة من منظومة وروتين الصحة في مصر، وما يعتريها من قصور.
من هؤلاء المجهولون في مسلسل بالطو؟
في الغالب لن يعرف المشاهد اسماً واحداً للمثلين بالعمل، اللهم إلا القدامى منهم، ولكن السمة الغالبة، أنهم وجوه لم تنل حظها من قبل، يحمل بعضهم عبر هذا مسلسل بالطو لقب "أول"، فتجد أول سيناريو وحوار لمؤلف العمل أحمد عاطف، وتجد أول تجربة إخراج لعمر المهندس، وأول تجربة أيضاً لمدير التصوير، وأول دور حقيقي يحصل عليه معظم أبطال العمل، مثل سلافة غانم، ودنيا سامي، وميرنا زكريا، ومحمود مبروك، وغيرهم، لكن كلمة السر الحقيقية في العمل، كانت في اسمين اثنين، وقفا بشكل غير مباشر خلف كل شيء، أما الأول، فهو الفنان القدير فؤاد المهندس، والذي يصادف أن حفيده هو مخرج العمل، وأما الاسم الثاني فهو اسم الفنان القدير محمود الجندي، حيث تقدم ابنته مريم محمود الجندي، دور الدكتورة هاجر، قد يراها البعض مبالغة، ولكنني بطريقة أو بأخرى، استحضرت في ذهني مسرحية "علشان خاطر عيونك"، وتذكرت المشاهد التي جمعت الاثنين في المسرحية الأشهر، انتابتني نوستالجيا، وأنا أشاهد امتداد الفنانين، في عمل جديد، لم يخرج صناعه من الصندوق، ولكنهم ابتعدوا عنه تماماً.
لعل واحدة من أبرز نقاط القوة في هذا العمل هي "إيمان" أطرافه ببعضهم، ورغبتهم في إثبات أنفسهم، لن أكذب إذا قلت إنني حين رأيت بطل العمل عصام عمر، خمنت أنه شخص بلا تعبيرات، وأن طبيعته المغرقة في اللاجدوى أهلته لهذا الدور، ولكنني حين بحثت خلفه، وجدته وقد تخرج في كلية الآداب، قسم المسرح، بجامعة الإسكندرية، وأنه ظل، طوال السنوات الماضية، يسعى للحصول على أدوار عبر عمل "كاستينج" في القاهرة، شاهدت أعماله السابقة، والإعلانات التي ظهر بها، و أدركت فوراً أنه خدعني، لدرجة أنني تخيلت أنه في الحقيقة شاب "على الله حكايته"، بحسب التعبير المصري الدارج، لكنني وبالعودة لأدواره سابقة، وإلى حديث عمر المهندس عنه، وعن سبب اختياره لبطولة العمل أيقنت أنه غول تمثيل قادم بقوة، يبرهن على ذلك أنه رفض بالفعل القيام ببطولة مسلسل بالطو في البداية، لم يكن واثقاً في نفسه بالقدر الكافي، لذا أخبر الجميع، أنه من الأفضل اختيار ممثل أكثر موهبة وشهرة منه، كي يضيف نجاحاً حقيقياً للعمل، لكن عمر المهندس، وفي سياق اعتنائه بالتفاصيل عموماً، كان يؤمن بعصام للدرجة التي جعلته يختاره رغم كل شيء للقيام ببطولة العمل، بل ويطمئنه قبيل سنوات، أن الأمور "هتبقى حلوة".
أين الخدعة؟
مسلسل كوميدي، إذاً لا يوجد اهتمام بالصورة، بقدر الاهتمام بالإفيهات، هكذا جرت العادة، حيث التصوير عامر بالكليشيهات، لكن هذه المرة، المسألة غير، نعم هو مسلسل كوميدي، حلقاته قصيرة، إلا أنه تم العناية بالإخراج، والتنفيذ، بكل تفاصيله، بما في ذلك الديكور.
كثير من الكادرات تم إتقانها، للدرجة التي دفعتني لأن أوقف عرض المسلسل لأتأملها، بداية من منزل الدكتور عاطف في القاهرة، مروراً، بالوحدة الصحية، وكادرات الأرياف، أعترف أنني وقعت في غرام جمال الكادرات، ألوانها وتصميمها، صحيح أنني لاحظت مآخذ بسيطة مثل وضع سرير الكشف، والذي جاء "مقلوباً"، حيث يقوم الدكتور عاطف بالكشف على المريض من اليسار لا اليمين، فضلاً عن مآخذ أخرى، ولكنها كانت بالنسبة لي مقبولة، لأنها لن تلفت إلا نظر العارفين بالأمر.
تخيلت أن مسلسل بالطو سوف يغضب القائمين على وزارة الصحة، أو مسؤولاً في الحكومة، قد يُتهم صناع العمل بالإساءة إلى صورة الطب والأطباء في مصر، لكن المفاجأة كانت حين أغضب "بالطو" أهل "مطوبس" في كفر الشيخ، حتى إنه دفعهم لتقديم البلاغات ضد القائمين على العمل، كذلك الأمر مع عدد من أطباء الأسنان الذين أبدوا غضبهم من الطريقة التي ظهر بها طبيب أسنان الوحدة في العمل، وصل الأمر إلى تقديم طلب إحاطة لوقف بث العمل، لكن أحداً من المعجبين بالمسلسل لم ير إساءة تذكر، أو مأخذاً يمكن محاسبة صناع العمل عليه.
مسلسل بالطو.. إنه يشبه المصريين
كم المواقف التي استدعاها مسلسل بالطو لا نهائية، أذكر منها ما ذكره الطبيب إسلام راضي، حيث كتب عبر صفحته الشخصية يروي: "أنا في حياتي ماشفتش وحدة صحية نضيفة زي اللي جايبينها في التصوير دي، أمال لو شافوا الست اللى جايبة ابنها وتقولي الولد قرصه عقرب إديله المصل يا دكتور عشان ألحق أروح مشواري، ولا كأنها بتقولي إديله كيس شيبسى مثلاً، أو زميلنا اللي اشتكى إن فيه تعابين ف الوحدة، قالوله اقفل الشباك قبل المغرب وحط شيح ع الباب".
خمنت في النهاية أنه ربما سبب إعجابي الشديد بالعمل، هو أنه يشبهنا أخيراً، لا قصور فارهة، ولا مخدرات، ولا لوكيشن معقد، أخيراً مسلسل داخل قرية خيالية، تدور أحداثه في كفر الشيخ، يخطفك منذ اللحظة الأولى، بتفاصيل خاطفة، تجعلك تضحك من قلبك، وهذا أمر لو تعلم عظيم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.