تتأرجح مصائر شخصيات الرواية فيما بين هبوط وصعود فبعضها يتوارى خلف النظام السابق على الثورة، فيما البعض الآخر يتحيّن فرص الظهور في واقع جديد لم تتضح معالمه بعد.
كنت غارقة في كتابة مقال بمناسبة ذكرى ثورة 14 يناير في تونس حين رنّ الموبايل معلناً وصول رسالة على "واتس أب"، ألقيت نظرة سريعة على الشاشة دون أن أفتح الرسالة قرأت فقط العنوان: "بث مباشر من جهاز سامسونج".
اعتقدت لوهلة أن الأمر خبر تكنولوجي فتجاهلته وعدت مسرعة لألتقط حبل أفكاري قبل أن يضيع تسلسلها، لكن هيهات تسمّر قلمي في مكانه وأبت أفكاري العودة إلى شارع الحبيب بورقيبة؛ حيث كنت مع ذكريات 14 يناير 2011 يحدوها الفضول لفتح الرسالة، خاصة أن عبارة "بث مباشر من جهاز سامسونج" ليست غريبة، سمعتها أو قرأت شيئاً شبيهاً من قبل!
اعتقدت أنني سأشاهد فيديو فإذا بي أقرأ بياناً صحفياً عن صدور رواية جديدة للكاتب المصري "وليد عثمان" تحمل عنوان "بث مباشر من جهاز سامسونج".
حسب البيان تدورُ الرواية، وهي الثالثة في مسيرة الكاتب بعد "جمر" و"عشت الموت"، تدور أحداثها عن أجواء الإعلام المصري بعد ثورة يناير، وكيف انعكست حالة عدم اليقين العامة وقتها على شخوصه الفاعلة وطريقة عمله.
ووسط حالة الارتباك تلك تتحرك شخصيات الرّواية بحثاً عن مجد ذاتيّ أو تعلقاً بمكانة أصبحت مهددة بفعل التغيرات المتسارعة في المشهد السياسي المصري.
وأنا أقرأ هذا التقديم تساءلت ما فائدة كتابة رواية عن أحداث لم تعد تهمّ كثيراً القارئ المصري والعربي عموماً، وهو الغارق في أزمات اجتماعية نتيجة تلك الأحداث؟
فقد فقدت الثورة في مصر، كما في تونس وغيرهما، نكهتها الحلوة بفعل مرارة غلاء المعيشة وتكاد تنطفئ شرارة الأمل في التغيير والحلم بغد أفضل، وهذه فكرة المقال الذي كنت بصدد كتابته عن تونس الثورة حين وصلتني رسالة "بث مباشر من جهاز سامسونج".
عشنا كل تفاصيل التطورات بعد ثورة 25 يناير 2011 وسقوط نظام مبارك، الكل أدلى بدلوه، سينما، دراما، روايات، وثائقيات محلية ودولية، مقالات ودراسات وتحليلات.
فما الذي يمكن أن تحمله هذه الرواية من تفاصيل جديدة سواء عن فترة سقوط نظام مبارك أو الفترة التي بعدها؟ وهل هي محاكمة جديدة لكل ما حصل في وقت ملّ فيه القارئ العربي من السوداوية والأزمات وصار يبحث عما يضحكه حتى لو كان أمراً تافهاً، ينسيه ولو لثانية حقيقة واقعه؟
دفعتني هذه الأسئلة لطلب الرواية، الصادرة عن "دار صفصافة" المصرية، قرأت الصفحات الأولى بسرعة وكأني في تحدّ مع الكاتب أيّنا سيربح، أنا التي لا تتوقع جديداً من رواية عن ثورة 25 يناير، وسأتفاخر بقول ذلك في مقالي أو الكاتب الذي يرى أن روايته هي قصة الماضي والحاضر وحتى المستقبل في لحظة ما تتجرّد من زمانيّتها، لتكون من جهة تأريخ لماضٍ قد تستفيد الأجيال القادمة منه.
من جهة أخرى، فإن الرواية هي رصد لواقع مجال بعينه، وهو مجال الإعلام الذي لم يعِش ثورته بعد وما زال، وقد يبقى لزمن طويل، يدور في نفس الفلك، كما يشدد "وليد عثمان" على هذه النقطة، وكأنه سمع تساؤلي، بقوله في حوار صحفي.
"المعارك الإعلامية هي الآن محور أي صراع، وأدواتها أصبحت متاحة لكل التيارات، وبعضها أصبح أكثر احترافاً من المؤسسات الرسمية أو التقليدية".
في هذا يسجل الكاتب نقطة لصالحه، حيث نعلم إلى أي مدى صار الإعلام محرّكاً رئيسياً لكل التطورات.
نحو عالم الرواية
في لحظة ما نسيت عن ماذا أبحث وقد نجح الراوي بأسلوب سردي سلسل في أن يحملني نحو عالم الرواية وأن أخوض مسابقة أخرى وهي تركيب الوجوه على الشخصيات.
بدت لي وجوه مألوفة حتى الأسماء لم تكن غريبة، رغم أنها من وحي خيال الكاتب، كانت في البداية أقرّب بين الاسم وشخصية في السينما المصرية، فالهلباوي مثلاً غالباً ما كان يلتصق بالشخصية "الشريرة" أو المتسلطة والظالمة، ساندي وفادية قاسم أسماء فيها دلع، أما إنجي شلبي فيذكرنا بأفلام البطلة التي تقف في وجه المتسلط.
لم يكتفِ الكاتب بأن يجر القارئ نحو هذا الحد من اللعبة، بل يدفعه بأسلوب سردي ولغة بسيطة، إلى الاسترسال في القراءة حتى يصل إلى ربط الشخصية الروائية بالشخصية الواقعية، فتتشكّل الصورة كاملة وتتّخذ العلاقة بين الشخصية والقارئ منحى جديداً.
فإما أن يصبح القارئ معجباً به ومؤيداً له ولأفكاره، فيتعاطف معه ويتفاعل مع بقية الأحداث وفق ذلك أو هو معارض له ولتوجهاته، فيتعاطف معه ويقف في صفه، وهكذا يجعل الكاتب من القارئ الشخصية الحاضرة الغائبة في مسار الأحداث.
لعلّ الناشر تفطن لذلك حين قال في تقديمه: "الرِّواية لا تُعنى باستحضار وجوه حقيقية تهتف باسم الحقيقة أو تدعي امتلاكها في مرحلة ما أو أخرى، وما يهم أكثر في سرد الرَّوايةِ إيَّاها هو عنايتُها بتصوير الزيف المُتجمِّل بالأضواء عِند ساحةِ الإعلام المصري لكي يخفي عورات من يهتفون باسم الحقيقة في كل مشهد وكل كلمة وكل صورة".
الكاتب سعى أن يكون محايداً وسارداً خارجياً لأحداث وتفاصيل غير محددة المعالم، أيضاً قلم الصحفي كان حاضراً ومساعداً في هذه الصياغة السلسة للأحداث، والتي لا تحتاج إلى تعقيدات لغوية أو استعراض لمفردات ومصطلحات حتى تفرض هيبتها على القارئ، فالرواية ليست رواية دسمة بالمفهوم التقليدي.
تطرح الرواية قضايا معقدة وتفضح ممارسات وأحداثاً سوداوية أحياناً بشكل مباشر وأحياناً أخرى بسخرية مكتومة، وبين هذا وذلك تظهر نبرة "شعرية" تخفف قليلاً قسوة الوقائع وتشدّ القارئ.
فالكاتب شاعر أيضاً، ويظهر ذلك في رسمه لمشهد النهاية السريالي؛ حيث وفاة طارق عسل في الغربة وعودته في تابوت إلى الوطن في يوم كانت فيه الشوارع مجهدة وملامح الانقسام تشق قلبها وتلطّخ وجوه الجدران بصورة مبعثرة تشكّل منعطفاً يستدرج البلد.
الشخصيات في الرواية ترسم خيوط هذه درامية وتتحرّك في كواليس تلك الرواية حكايات وغوايات، كلمات ولكمات، أرواح مسحوقة بمطامح ومطامع تصنع المطابع والكاميرات حضورها ثم تلقيها على من يوزعها على أرصفة الغياب، وتدور تلك الحكايات، المختلطة بالغوايات الشخصية، في زمن بعينه.
كل الشخصيات تقريباً تشبه "طارق عسل" وهو أحد شخصيات الرواية، في قوته عندما كان رجل النظام القديم، وفي ضعفه عندما سقط ذلك النظام، وفي انتهازيته وفي انهياره وندمه الذي ارتبط بضعفه فلو صحّت له الفرصة مع "النظام الجديد" ربما ما كان ليتركها.
هذا هو الإعلام الذي أراد "وليد عثمان" أن يزيح الستر عنه وعن أزمته؛ لأنه يؤمن أن مهمة الكاتب ليست فقط التشخيص والنقد، بل الاشتباك مع الواقع للنهوض به ومعالجة هناته فالنقد الذي لا يبتغي التغيير جهد ناقص.
رأي الناشر
يؤيد ناشر الرواية ذلك بقوله: "ما يهم أكثر في سرد الرَّوايةِ إيَّاها هو عنايتُها بتصوير الزيف المُتجمِّل بالأضواء عِند ساحةِ الإعلام المصري؛ لكي يخفي عورات من يهتفون باسم الحقيقة في كل مشهد وكل كلمة وكل صورة".
الزمن الذي أطر فيه وليد عثمان أحداث روايته هو فترة تولي المجلس العسكري الحكم بعد ثورة يناير 2011، وهي الفترة المؤسسة لتردي الإعلام المصري الذي نعيشه بكل صوره.
عنوان وزمن الرواية
سألت "وليد عثمان" عن سبب اختياره لهذا الزمن تحديداً، من بين كل الفترات الفاصلة التي شهدتها الساحة المصرية منذ 2011، ولماذا الآن وقد مرّ على التغيير أكثر من عقد من الزمن، فقال: "هربت بالزمن إلى الوراء للوقوف عند جذور الأزمة، كان يمكن الكتابة عن ذلك قبل سنوات لكن، كما ترين وبعد سنوات من التغيير بقيت العقدة قائمة وهي فساد الإعلام وإفساده".
أما بخصوص اختيار العنوان فقال: "كلمة سامسونج مرتبطة بواقعة شهيرة لمذيعة مصرية يمكن استرجاعها من يوتيوب تحت عنوان "تم الإرسال من سامسونج"، هنا عرفت لماذا كان صدى هذه العبارة مألوفاً عندما قرأتها أول مرة عندما وصلتني على تطبيق "واتس أب".
فهي واقعة شهيرة لمذيعة كانت تقرأ من الشاشة نشرة خبر وفاة الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، قرأت المذيعة تفاصيل الخبر الذي كان بياناً من النيابة حول وفاة الرئيس الأسبق محمد مرسي، أرسل "عبر جهاز سامسونج".
هي العبارة التي اختتمت بها الخبر دون أن تنتبه في لحظة ارتباك عكست حالة "الإعلام المصري بأنواعه والتونسي أيضاً؛ حيث الراوية تتوافق في بعض تفاصيلها وأحداثها مع تونس بعد 14 يناير 2011، وسط دفق من المعلومات يربك أكثر مما يطمئن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.