الجرأة في الدراما.. تعرية عيوب المجتمع أم “هتك ستره”؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/02/28 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/03/01 الساعة 09:04 بتوقيت غرينتش
ريهام عبدالغفور في مسلسلها المثير للجدل "أزمة منتصف العمر" / الشبكات الاجتماعية

"لولا الشر ما عرفنا الخير، ولولا الظلام ما عرفنا النور"

دائماً ما أثارت عقلي هذه الجملة التي تمثل فلسفة "هيرقليطس"، فرغم الغموض الذي يحيط بالفيلسوف اليوناني المعروف، ورغم القليل الذي وصل لنا من كتاباته وآرائه، تظل هذه النظرة إحدى أهم رؤاه، والتي دائماً ما شغلتني.

هل الشر ضروري حقاً لنرى الخير؟ وإن كان ضرورياً، فعلينا معرفته لا مداراته، علينا الإشارة للشرور والأخطاء وتعريتها لكي نُقدّر الخير عندما نراه.

الحكمة الشهيرة تقول "تُعرف الأشياء بأضدادها"، وهكذا عندما بدأت الأقاويل تتناثر حول مسلسل "أزمة منتصف العمر" عادت إلى ذهني كل هذه الأفكار.

انقسام حول المسكوت عنه مجتمعياً

الجرأة في الدراما

انقسمت الآراء حول العمل منذ الحلقات الأولى، ولن نتطرق الآن لتحليله أو نقده كعمل فني، فهذا ليس موضوعنا الحالي، ولكن ما نتكلم عنه اليوم هو الجدل الذي أثاره العمل حول موضوعه، والذي تجدّد كلما ظهر على الشاشة -أو حتى نشر ككتاب- عمل يعرض فكراً جريئاً، ويناقش قضايا من المسكوت عنها مجتمعياً في الأغلب.

فيبدأ الجميع في الانقسام بين مؤيد لعرض العمل، وفائدة تعرية عيوب المجتمع وكشفها، وبين رافض للعرض، معتبراً ذلك خروجاً عن الآداب العامة وهدماً لقيم الأخلاق والأسرة.

لا تحتاج أن تكون ناقداً فنياً أو كاتباً حتى ترى هذا بوضوح، فيكفي المرور عبر الردود على أي خبر معروض عن المسلسل عبر شبكات التواصل الاجتماعي لترى كم التعارض بين الاحتفاء بالجرأة ونقدها، وكلٌ من الفريقين لديه حجة دامغة -في رأيه- تدعم قراره.

عمل متجاوز مثير للغرائز ينشر الفاحشة.. هل هو كذلك؟

الجرأة في الدراما

الفريق الأول، وبنظرة سريعة هو الفريق الأكثر عدداً أو ربما الأعلى صوتاً، هو المُعارض، فالمسلسل الذي يعرض حالة -تبدو- زنا محارم؛ حيث تُقيم الأم الشابة علاقة آثمة مع زوج ابنتها، يرى هذا الفريق أن هذه الأعمال ومناقشة هذه القضايا يُشيع الفاحشة في المجتمع، ويجرّئ الناس على الخطأ ويجعله اعتيادياً ومقبولاً، بل ذهب البعض لكون تجسيد شخصيات فنية محبوبة كبطلة العمل -ريهام عبد الغفور- لمثل هذا الدور قد يجعل الكثيرين يتعاطفون مع الخطأ نفسه.

هناك بالطبع فريق يرى من الأساس أن الفن في مُجمله مُحَرم ويزيد التحريم مع أي عمل يحوي أنثى فهو يثير الغرائز.

أم العمل صرخة تحذير واستغاثة لرفع الغطاء عن جرائم المجتمع؟

الجرأة في الدراما

الفريق الآخر يرى العمل صرخة تحذير ضرورية لجرائم مجتمعية تحدث بالفعل، فالدراما لم تخترع هذه المواقف، بل فقط تُلقي الضوء عليها لتحذّر منها، وتحلّل أسبابها، وتحاول معرفة المحرك الأساسي لها لتلافي حدوثها.

خاصة مع هذا النوع من الجرائم الشاذة؛ حيث يتبنى العمل الفني انتقاد الفعل الآثم وإظهار بشاعته، فهو لا يحُبب المتلقي في الفعل، بل يفتح له نافذة معرفية ليلقي نظرة على حدث كهذا، فيرى العقاب لفاعله والكارما الحقيقية التي حاقت بكل من شارك في فعله، فكيف يكون ذلك منتقداً؟!

أفعال ليست جديدة على المجتمع ولكنها مدفونة تحت الرماد

الجرأة في الدراما

الحقيقة أن المجتمع المذهول من هذه الأفعال ومن عرضها يتناسى أن هذه الأمور كانت دائماً هناك، فقط نحن لا نتكلم، فخلال عمري الذي لم يتجاوز 40 عاماً ورغم خلفيتي المحافظة اجتماعياً ودينياً ولكنني شخصياً شاهدت في محيطي المجتمعي حادثتين لزنا المحارم كشفتهما الظروف؛ الأولى في المدرسة الإعدادية، فتاة عادية تماماً من عائلة محافظة كانت أكبر منا في العمر قليلاً، فنحن في العام الأول الإعدادي وهي تسبقنا بعامين، في فناء المدرسة تسقط الفتاة مغشياً عليها لتقوم الطبيبة بالكشف عليها والسؤال عن ما تعانيه من أعراض مرضية، لتمسك بطرف الخيط الذي تسحبه حتى نهايته ليبدأ الهمس المصدوم، فالفتاة "حامل"، مع الضغط عليها وإبلاغ المدرسة لإخلاء مسؤوليتها تحكي تحت الضغط أنها تتعرض لاعتداء جنسي بشكل دوري منذ عامين من أخيها المراهق وابن خالتها، كانت صدمة حقيقة لأطفال في أعمارنا ربما لم يعوا تماماً وقتها فداحة الأمر ولكن همس الكِبار المنزعج، وحوقلتهم المصدومة، ونظرات الاستبشاع فوق وجوههم أخبرتنا أن الأمر جلل.

كذلك اختفاء الفتاة التام، فلم تعد للمدرسة مرة أخرى نهائياً ولم يسمح لنا الكِبار أن نتحدث حتى عنها، وعندما جرؤت زميلة أن تسأل عنها ذاكرة اسمها تم نهرها بحدة، كان الجميع يتكاتف لكي تطمس الحادثة تماماً لأن تختفي سيرة الفتاة وكأنها لم توجد من الأساس، وقد نجحوا في إخفائها عبر ألسنتنا الصغيرة ولكنهم لم يستطيعوا إبعادها عن عقولنا التي ظلت تتساءل عن ما حدث حتى كبرنا وفهمنا أبعاد الموقف.

الموقف الثاني والذي أثّر بي كثيراً لكوني لم أستطع لصاحبته أي حل، ففي الجامعة حين أسرّت لنا صديقة عن محاولات والدها الاعتداء عليها هي وأختيها الأصغر منها، كانت تعاني في صمت، فالأم تغض الطرف خوفاً من الأب العنيف والذي يتعاطى المخدرات فيغيب عن التمييز ويحاول انتهاك حرمة فتياته الصغار، كانت تحكي منكسة الرأس متلعثمة الكلمات كيف أن هذا مسكوت عنه حقاً في منزلهم، فالخمسة يعرفون ما يحدث؛ الأب والأم والفتيات الثلاث، ولا أحد منهم يتحدث صراحة، فقط تتغافل الأم عن ما يحدث، ولا يناقشه الأب المجرم حين يفيق، وتتعاون الفتيات همساً في رد العدوان وحماية أنفسهن في لحظات الخطر.

كشخص يعيش في بيئة أسرية هادئة ومحتضنة كنت أشعر بالفزع، كنت أظن ذلك لا يحدث، ولكن مع الوقت اكتشفت أنه للأسف يحدث ولكن لا أحد يتكلم، على الضحايا أن تصمت خوفاً من الفضيحة، وعلى المجتمع أن يطأطئ رأسه متظاهراً أنه لا شيء من هذا موجود، كي لا نخدش حياء هذا المجتمع.

تلميحاً لا تصريحاً

الجرأة في الدراما

منذ سنوات والسينما والدراما يحاولان خدش هذه المنطقة تلميحاً تارة وتصريحاً يفشل غالباً تارة أخرى، ربما كان أكثرها صخباً فيلم المرأة والساطور لنبيلة عبيد؛ حيث تكشف السيدة المتزوجة أن زوجها يحاول الاعتداء على ابنتها من زواج سابق، قد مر الفيلم مجتمعياً في الأغلب لكون التركيز الأكبر لم يكن على قضية زنا المحارم، بل على فكرة طريقة قتل الزوجة للزوج المجرم، وقد أخذ المجتمع الكثير من الوقت عبر الصحف وبرامج التلفاز -قبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي- لنقاش العنف المتصاعد في المجتمع في تجاهل يشبه الإجماع لجريمة زنا المحارم من رجل نحو ربيبته (ابنة زوجته المحرمة عليه شرعاً).

تلميح آخر مر مرور الكرام في فيلم حين ميسرة، لزوج الأم "الفنان سامي المغاوري" الذي يتحرش بابنة زوجته "سمية الخشاب" مما يجعلها تغادر منزلها ليس فقط هرباً من الزوج، ولكن لملاحظة الأم "سوسن بدر" ما يحدث وغيرتها من ابنتها كذلك.

إن كانت هذه المحاولات للإشارة للجريمة المسكوت عنها قد مرت مرور الكرام، ولكن أي محاولة للتصريح أو عرض القضية كحدث أول في عمل درامي أو سينمائي قد باءت في الأغلب بالفشل، فلا ينسى أحد العاصفة التي واجهت مسلسل ليلى علوي "دنيا تانية" حين ظهر مشهد عن علاقة غير مشروعة بين سيدة وزوج أختها، وقد اعترضت الرقابة وتم توجيه إنذار للقناة العارضة للمسلسل، وحُظر عرض الحلقة مرة أخرى.

كذلك اضطر فيلم "حرام الجسد" لناهد السباعي لتغيير قصة الفيلم بشكل كامل لتجيزه الرقابة، فبدلاً من خيانة الزوجة لزوجها مع أخيه وهو ما رفضته الرقابة لكونه زنا محارم، تم تغيير القصة لتكون الخيانة بين الزوجة وابن عم الزوج.

هكذا لم ينجح الفن دائماً في اقتحام هذه المنطقة بشكل واضح حتى جاء مسلسل "أزمة منتصف العمر" والذي إن أجازته الرقابة ففي الغالب فقط لأنه مع تطور الأحداث سيَكتشف المشاهد أيضاً مفاجأة بكون القضية ليست حقاً زنا محارم كما ظن في البداية، بل حاول صانعو العمل تخفيف وطأة الجريمة بجعل الفتاة ليست ابنة الزوجة بل ابنة زوجها، وهكذا فما حدث لم يكن في حقيقته زنا محارم، وإن كان ذلك لم ينفِ دناءة الجُرم، ولكنه خفف من حدة الصدمة المجتمعية بكل تأكيد.  ورغم ذلك فالعمل مع الصخب الحادث حوله استطاع فعلاً إلقاء الضوء حول القضية الشائكة.

هل طرح القضايا الشائكة على الشاشة يؤدي لاعتيادها؟

الجرأة في الدراما

رغم رؤية البعض أنه على المجتمع أن يخفف من قبضة نقده قليلاً ليعترف بأن هذا يحدث، وأن إخفاءه لهذه البشاعات لن يجعلها تختفي، على العكس سيكرس من حدوثها في هدوء ويعطي الأمان لفاعليها بأن جريمتهم لن تُفضح خوفاً من المجتمع وهو ما سيشجع ضعاف النفوس على التمادي، بينما الخوف من الفضيحة رادع للكثيرين بالفعل.

إلا أن الأغلبية لا ترى هذا، بل ترى واجباً أن يبقى الردع قانونياً وتوعوياً داخل المجتمع، وأن عرضه إعلامياً وفنياً يساعد على نشره، لا التقليل منه، فإن كان كثير من دراسات علم النفس يشير إلى أن أفلام الجريمة والعنف قد تؤدي إلى اعتياد العنف في المجتمعات وإلى الرغبة في التقليد كذلك، فهذا ينعكس أيضاً على كل الأفكار الخاطئة والأفعال الشاذة التي يمكن أن تبثها الدراما والسينما؛ حيث يمكن أن يعتاد المجتمع مثل هذه الجرائم ويفقد استبشاعه لها نتيجة كثرة عرضها.

فهناك جدل علمي دائم حول هل الفن والإعلام حين يقدم العنف والأفكار الشاذة، هل يحذر منهما، أم يقدم نموذجاً قد يحتذى، خاصة للأطفال والشباب.

لذا فإن كانت الدراسات طرحت فكرة أن أفلام العنف يمكن أن تُكرس بالفعل للعنف وتجعله أمراً اعتيادياً، فالقياس يجعل الكثيرين يفكرون بأن جريمة بشعة كزنا المحارم يتطيّر منها ويستبشعها أي شخص يسمع عنها، مع تكرار عرضها لتتحول لمادة تسلية عبر الشاشات، لن تثير هذه الرهبة والرفض في نفوس البشر، فالتكرار يخلق الاعتياد، والاعتياد يخلق الألفة، والألفة مع الجرائم تؤدي إلى استسهالها، أو على الأقل عدم إدانتها بما يكفي.

فبينما بعض ضعاف النفوس يمكن أن تهفو قلوبهم وتنحرف عقولهم نحو تجربة هذه الأمور، فحتى الأسوياء مع تكرار عرض الحدث، وإلحاحه على عقولهم، بعد فترة لن يشعروا اتجاهه بذات الرفض.

فعندنا نسمع عن حادثة سرقة بسيطة نراها يومياً في الحياة والدراما والأدب، نرفضها، ولكن ربما لن نشعر جهتها بالفزع والاشمئزاز الكافي، وهكذا ترى هذه الفئة أن هذا ما سيحدث مع هذا النوع الشاذ من الجرائم مع كثرة عرضها عبر الشاشات واعتياد الجميع عليها والتسليم بوجودها، وهو رأي أيضاً له اعتباره ولا يمكن تجاهله.

 لذا في كل الحالات يجب على الأسرة أن تتثقف اجتماعياً ودينياً لتلافي حدوث مثل هذه الجرائم والعوامل المؤدية إليها، فمجتمع واعٍ بما يحدث مثقف سوف يعرف كيف يجابه هذه الأفعال الشاذة بشكل أقوى.

وأخيراً

فسوف يبقى النقاش المجتمعي دائماً يحاول أن يَسْتقْرِئ الدراسات الاجتماعية والنفسية لاكتشاف الطريقة الأمثل لمجابهة مشاكل المجتمع، ومعرفة متى يمكن تقبل جرأة الطرح في الفن، ومتى قد تكون مضارها أكثر من نفعها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

دعاء حسين
كاتبة مصرية
كاتبة مصرية
تحميل المزيد