عُرف الدكتور محمد الفايد في المغرب وخارجه بكونه عالم تغذية، يشفع أحاديثه العلمية بتفسيرات مستقاة من النصوص الدينية، يُزكّي بها ما انتهى إليه العلم. كان يبدو قريباً من الإسلاميين، أو شريحة منه. جمع من منظور كثير من المسلمين والإسلاميين الحُسنيين: الدين والعلم. ولكن هذا الزواج الذي كان يبدو مُوفَّقاً، ما لبثت أن تصدع من خلال تشكيك الدكتور الفايد فيما يعتبره بعض علماء الدين غير قابل للتشكيك، كقوله في الإسراء والمعراج، وما لبث الصدع أن أضحى شرْخاً حين أفتى بأن الجنة ليست قصراً على المسلمين، وأن أبوابها مُشْرعة لمن قام بعمل صالح. فكيف تكون النار جزاء من أنار الكون، كما إديسون؟ وكيف تكون جهنم مثوى من شفى المرضى كما باستور؟ وكيف يبوء بسَقر من اكتشف اكتشافاً يُخفف من ضُرّ الإنسان، ويَشفي سَقَمه، وينقذه من أوهاق المرض والعوَز والجهل.
اقترف الدكتور الفايد المحظورَ في نظر بعض الفقهاء، وثارت ثائرة بعض رجال الدين، وقالوا وأطنبوا فيمن يُفتي بغير علم، ولا هُدى، حسب قولهم، وذهب بعضهم لإصدار البلاغات التي تذهب إلى حد التكفير ومن ثمة الاستتابة. واللافت، وهو المهم في نظري، هو أن المؤسسات الرسمية من المجلس الأعلى للعلماء في المغرب أو الرابطة المحمدية به، والأزهر الشريف في مصر، لم تخض أية واحدة منها في هذا النقاش، واستنكفت من أن تُبدي رأياً فيما لا يتوجب عليها أن تفعل. وحسناً فعلت إذ لم تخض في ذلك، إذ الأولوية ينبغي أن تنصرف إلى ما يتخبط فيه المسلمون، وليس فيما يتوزع حوله الدعاة والأدعياء.
لست رجل دين ولا عالماً فيه، ولذلك لن أخوض فيما لا أعلم، ولكني أصْدُر من مبادئ عامة لعلها أن تفيد، وهي أن الإسلام قائم على عنصرين أساسين هما الإصلاح والتجديد. الإصلاح فيما يعتري شؤون المسلمين وتدبيرها بالتي هي أحسن ، وتجديد الإسلام (في مجال المعاملات) من خلال الاجتهاد، أي المواءمة مع ما يستجد، وفق السياق الزماني والمكاني.
ولذلك انبرى مصلحون للشأن العام، وقام مجددون في الفكر لنفث الجذوة، بعد إذ كادت تخبو ونفضوا عنها الرماد. توزعوا ما بين من يريد أسلمة الحداثة، أي لا يرفض الحداثة، ولكنه يريدها مسلمة تؤمن بالله، وبالكتاب والسُّنة، ولا تُلقي بمدار العقيدة ظِهْرياً، وبين من انبروا في سعي لتحديث الإسلام، لا كعقيدة، ولا كعبادة، فهذان مما لا يتوجب المساس به، ولكن في المعاملات، وفي مقاصد الشريعة، أو روح القوانين بالتعبير الغربي، وحرص هؤلاء وأولئك على أن يتجنوا عالم الغيب؛ لأنه محجوب عن الإنسان، مداره الإيمان.
ولذلك لا يَحسُن، من وجهة نظري، بعالم في شؤون الدنيا، أن يخوض في الغيبيات، وبتعبير آخر يتوجب عليه أن يفصل بين العلم والدين، فمدار العلم السؤال عن الكيف، والاستكشاف المستمر، وإمكانية تجاوز الاستكشاف، أما الدين فمداره الإيمان، أو الاعتقاد… ولذلك كل خلط للدين والعلم يضر بالدين ويسيء للعلم.
ولعل ما انتهى له البعض من تمييز ما بين الكتاب المسطور وهو القرآن الكريم الذي يُقرأ بالقلب، والكتاب المنشور الذي يُقرأ بالعقل، ما يعصم من الزلل ويُجنب الزيغ.
للفقهاء في مجتمعاتنا دور لا ينكره إلا جاحد، في تهذيب الأخلاق، والارتقاء بالإنسان، وتجنب الزيغ، وهم يستطيعون طالما قرؤوا النصوص قراءات متعددة، إذ هي قابلة للتفسير والتأويل، وقرؤوا إلى ذلك الواقع، بالأدوات العلمية التي يتيحها العلم الحديث، وألا يخلطوا بين عالم الغيب، الذي هو محجوب عن الإنسان، وبين عالم الشهادة، الذي يتوجب قراءته بالعقل، وبالعلم.
ومما يثلج الصدر أن المؤسسات الدينية المعتمدة، لم ترَ ضيراً من الانفتاح على العلم، وأدرجت في مسالك تكوينها انفتاح العلماء والقيمين الدينيين على العلوم العصرية، وحرصت ألا تخلط بين الأمرين، بل سعت إلى مد الجسور مع غير معتنقي الإسلام، في حوارات تسعى لمد جسور التفاهم والتصدي للقضايا المشتركة التي تَرين على البشرية من تفشي الماديات وانحلال الأخلاق والصراعات والفتن، وتتجنب الفتوى فيمن يدخل الجنة ومن يغشى النار..
قامت مبارزة بين عالم تغذية يخلط بين العلم والدين، وتصدى له بعض الفقهاء ممن لا يرون سوى الاعتقاد سبيلاً للخلاص، وانتصرت مؤسسات دينية لأنها لم تخض في نقاش، أراه عقيماً، لا يُقدِّم أو يؤخر. وليس المهم إن كان إديسون ووات وباستور سيدخلون الجنة، ولكن هل ندخل عالم العلم. ولن ندخله حتماً بمثل هذه النقاشات العقيمة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس عن الجليل من الأمر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.