سُجلت في تاريخ البشرية سلسلة من ثورات الطاقة، حيث استهلت بالنار كمصدر للطاقة التي كان لها المرتكز الأساسي في تطور البشرية، إذ بها عزَّز الإنسان وجودَه، وبها تم التمتع واستغلال حاجاته من الغذاء والدفء وصَهر المعادن، ثم طاقة الرياح التي استغلت في طواحين الهواء، وفي دفع السفن والإبحار، ثم اكتشاف البارود من طرف الصينيين، والذي استُخدم لتقوية القدرات العسكرية، ثم ثورة البخار، التي استُعملت في البواخر والقطارات، والمعامل والسكك الحديدية، وازدادت مع ذلك الحاجة إلى المحروقات، فبدأ الخشب يقل ببعض المناطق، ما دفع الإنسان لاكتشاف الفحم، الذي صار بديلاً عن الخشب لإنتاج الطاقة الحرارية، وللإنارة.
ثم تزامنت تقريباً بعد ذلك ثورتا الكهرباء والنفط، حيث بدأت تتضح صلاحية وكفاءة استعمال كل من الكهرباء والنفط في مجالات واسعة، وانفجرت التقنية والتطور في مجالات مختلفة، تمسّ حياة الإنسان، وصارت معها الطاقة عاملاً رئيسياً في صناعة الحضارة والتفوق في كل المجالات، كما أن مسيرة الإنسان لم تتوقف في البحث عن أسرار الطاقة ومجالاتها، حيث اكتُشفت فيما بعد الطاقة النووية، واستعمالاتها السلمية والعسكرية، ثم الطاقة الشمسية، أو الطاقة المتجددة كما يسميها البعض.
ومنه نلاحظ أن المسيرة البشرية نحو الحضارة تتناغم والتطور الحاصل على مستوى مضمون الطاقة، وقد أشار إلى هذا المعنى حافظ برجاس في كتابه "الصراع الدولي على النفط العربي"، حينما استشهد بقول لوزير الداخلية الأمريكي والمختص بالشؤون النفطية في فترة الحرب العالمية الثانية "هارلود إيكس"، حيث قال إن "البشرية صنعت تطورها الهائل إلى الحضارة عبر عصور أربعة: العصر الحجري، العصر البرونزي، العصر الحديدي، وأخيراً عصر البترول".
وتأسيساً على ما سبق من توطئة، وانطلاقاً من ترابُط مسيرة البشر والطاقة، فإنه باعتقادي أننا نخلص إلى نتيجة مفادها أن علاقات البشر، سواء أكانوا ضمن تجمعات بسيطة أو تكتلات على شكل دول وتنظيمات، يحددها مدى امتلاكهم للطاقة (امتلاك مادي واستغلال)، وحاجتهم إليها، لأنها تندرج تحت الأولويات الوجودية التي ليس لهم غنى عنها، ومن ثم للطاقة إكراهات جسيمة تغير من المواقف بشكل جذري، وخاصةً في ظل عصر التنافس والصراعات كما هو الحال اليوم.
وفي هذا الإطار لا شك أن النفط والغاز في عصرنا الحالي، إلى جانب الطاقة النووية، هما أكثر الموضوعات تنافساً بين الدول، وهما العاملان الأبرز، إذا ما انحازا معاً إلى طرف من الأطراف فسيكون بذلك له الكلمة ذات الصوت المرتفع، الذي يجد البعض معه مذعناً إلى قراراته في النهاية، إنها مسيرة البشر وتغير موازين القوة.
ولذلك نجد الصراع على النفط قديماً ومتجدداً، حيث إنه عقب حفر أول بئر للنفط في أمريكا عام 1859، بدأت الدول الغربية المصنعة في البحث عن تأمين مصادرها من النفط، و بدأت معها أزمات العالم الأكثر دموية، والتي شهدت حروباً واستعماراً للدول واسع النطاق في العالم، وهي نزعة التسلط والتحكم لبعض الدول السائدة إلى اليوم، وهكذا مناطق النفط تعتبر قيمة استراتيجية عظمى في معترك العلاقات الاستراتيجية الدولية، وبالنتيجة عالمنا العربي، أحد أهم المناطق عالمياً، الذي أخذ حيزاً واسعاً من اهتمام القوى الغربية والشرقية أيضاً، كما هو الحال مع الصين، لكن من منظور مختلف.
وبالرجوع إلى الحرب الأوكرانية الروسية وتداعياتها على مصادر الغاز الطبيعي، وتأثيره على أمن الطاقة العالمي، اتضح أن الغاز الطبيعي الروسي سلاح استراتيجي، يعمل له حسابات دقيقة، وأن أوروبا تحديداً وجدت نفسها مكبلة، وليس لديها خيارات إضافية متاحة، ما جعل مواقفها تنعكس سلباً على العديد من المجالات ذات الارتباط بالحرب الأوكرانية الروسية، فتحالف شمال الأطلسي وجد نفسه مهلهلاً، وأن أمريكا ليس بإمكانها أن تغامر بحلفائها الأوروبيين، هذا إن استبعدنا الردع النووي، وأنها من جهة أخرى لم تصل إلى تأمين مصدر الطاقة من مناطق أخرى في العالم، لتداخُل وتشابك المصالح الدولية، وأيضاً أظهرت الدول الغربية أنها حليف غير مأمون الجانب للعديد من الدول، لاسيما العربية منها، وهو ما بيّنته الكثير من المواقف السابقة، وفي ظل هذا الوضع أبقت الولايات المتحدة الأمريكية على نهج العقوبات الاقتصادية كخيار ممكن في الوقت الراهن تستعمله ضد روسيا.
هذه الأزمة المستفحلة التي تستغلها روسيا، ليس فقط على واقع الحرب الأوكرانية، وإنما أيضاً لتفتيت التحالف الأمريكي الأوروبي، والذي يشهد تراجعاً، وهو ظاهر من بعض المواقف الأوروبية، وأبرزها حينما وصف الرئيس الأمريكي الرئيس الروسي بأنه مجرم حرب، وأنه يجب أن يتنحى من الحكم، ومنه تشكل إشارات امتعاض بين الأطراف الأوروبية والطرف الأمريكي.
والحقيقة أن اختلاف الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية حول موضوع الغاز الروسي له سوابق تاريخية أخرى، منها أنه في عام 1981 تم ربط الاتحاد السوفييتي بأوروبا، من خلال بناء خط أنابيب للغاز الطبيعي، يمتد من سيبيريا إلى أوروبا الغربية، هذا الخط لم يكن مقبولاً لدى الولايات المتحدة، والتي رأت فيه تهديداً آخراً لها، حيث دعا في حينها الرئيس الأمريكي ريغان الحلفاء الأوروبيين مثل فرنسا وألمانيا للانضمام إلى الحظر والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على تنفيذ وتشغيل خط الغاز الروسي، وقد قوبلت تلك الدعوة بالرفض، وأيضاً أشعلت أزمة غربية، وزرعت الانقسام بين الولايات المتحدة وأوروبا، وكانت النتيجة تراجع الولايات المتحدة عن تلك العقوبات، وانتهاء بناء خط أنابيب الغاز السوفييتي مع حلول عام 1984.
الولايات المتحدة الأمريكية كانت تضع النفط والغاز ضمن أهم عناصر استراتيجيتها المتعلقة بالهيمنة العالمية، ولذلك تعتبر خطوط أنابيب الغاز الروسية نحو أوروبا أداة جيوسياسية لروسيا، لتقويض الطاقة والأمن القومي الأمريكي، وبذات الطرح ومن خلال ما تحاول روسيا تجسيده عبر خطوط إمداد الغاز نحو أوروبا، من غير العبور على أوكرانيا، والتي بلغت حوالي 6 خطوط إمداد، يعطي إشارة إلى أن روسيا تدرك تماماً ومنذ عقود أن الغاز الطبيعي يشكل أحد أهم العوائق في استعادة نفوذها، وبذات القدر يشكل أيضاً الغاز عاملاً مهماً، ومن منظور جيوسياسي، في نجاح خططها، كما لا يمكن تجاوزه في تفتيت أحادية القطب الأمريكي.
ولذلك، مما نستخلصه من الحرب الأوكرانية الروسية، أنه من يتحكم في الطاقة إنتاجاً وتوزيعاً يمتلك القرار السيادي، وأن الطاقة لم تعد تقتصر على البعد الاقتصادي، بل أيضاً على البعد الأمني وصناعة موازين القوة في العالم، والتأثير فيها، وتزداد الفكرة وضوحاً وترسيخاً إذا ما اقترن ذلك مع القوة النووية، إذ تنعكس على كل سلوك الدولة في العلاقات الدولية، وعليه يمكن أن نقول إن الطاقة باتت سلاحاً جيوسياسياً مزدوجاً تستخدمه القوى العالمية.
وعلى هذا النحو فلو عملنا إسقاطاً على ما تقدم ذكره على منطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، على اعتباره مسرحاً محتملاً لعمليات تنافسية ترقى ربما إلى التصادم العسكري مستقبلاً، على غرار الشواهد التاريخية وحاضر الصراع اليوم، فإنه عند عملية مسح جغرافي بسيط على هذه المنطقة، وإجراء بحث عن أي الدول التي تحاول امتلاك الطاقة النفطية (الغاز الطبيعي) والنووية معاً، سنجد في المحصلة الكيان الإسرائيلي وإيران، ثم تركيا، وحينما نستبعد إيران على اعتبار أن موضوع الطاقة النفطية يتواجد بشكل سيادي على إقليمها، يتبقى الكيان الإسرائيلي وتركيا، يسعيان بشكل مستمر لامتلاك الطاقة النووية، والتحكم في مصادر الطاقة أو الاستثمار فيها.
الأزمة الأوكرانية فتحت نوافذ متعددة، ودفعت بإعادة رسم علاقات دولية جديدة قد تبدو متناقضة، وربما لا تروق إلى طائفة كبيرة من الشعوب، منها التقارب التركي الإسرائيلي، لكن إذا ما طرحنا أبعاد الطاقة، وما أفرزته الحرب الأوكرانية على الواقع الأمني والاقتصادي، فإننا نسلم بفكرة ما أسميه إكراهات الطاقة، على الأقل بشكل مؤقت.
فالكيان الإسرائيلي باعتباره محتلاً للأراضي الفلسطينية يدرك تماماً أهمية الطاقة، وأن ذلك يشكل تهديداً وجودياً له، كما أن الاعتماد على الغاز العربي مرهون بمدى بقاء الحلفاء، فرياح الربيع العربي 2011 كمثال أسقطت الرئيس حسني مبارك، وأحالت وزيرَي بترول في حكوماته إلى محكمة الجنايات، لتسببهما في إبرام صفقات بيع الغاز الطبيعي لإسرائيل "بسعر متدنٍ لا يتفق والأسعار العالمية"، (قضت بالبراءة لاحقاً)، وللإشارة فإنه قد وقعت مصر عام 2005 اتفاقية تقضي بتصدير 1.7 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً لإسرائيل، لمدة عشرين عاماً، مقابل 70 سنتاً للمليون وحدة حرارية، بينما كان سعر التكلفة حينها 2.65 دولار، والحقيقة أن هذه الاتفاقية تعتبر تطبيعاً طاقوياً، على غرار ما تم الاتفاق عليه مع والأردن بشراء الغاز الفلسطيني المسروق من طرف الكيان، وأيضاً حكومة السيسي التي تستورده في وقت لاحق، هذا التحول رغم أهميته من الناحية الاستراتيجية للتطبيع فإنه في نظر الإسرائيليين ليس طموحاً، وخاصة بعد اكتشاف الحقول في السواحل اللبنانية (مثال بلوك 9 المتنازع عليه)، والتي فتحت آفاقاً وأطماعاً كبيرة لدى الكيان، وصارت الوجهة نحو أوروبا بالتفكير في إنشاء خط أنبوب غاز "East Med" من السواحل اللبنانية إلى شرق أوروبا، وقد وقع الاتفاق مبدئياً بين اليونان وقبرص والكيان الإسرائيلي 2019، وبحضور ممثل عن إدارة ترامب، إلا أن الرئيس الأمريكي بايدن أنهى أي دعم لهذا المشروع، وانضم إلى الموقف التركي، الذي يرى فيه أزمة في الشرق الأوسط، غير أن هذا المشروع تقف وراءه الإمارات ومصر ودول أوربية، إذ يشكل تحولاً جيوسياسياً للكيان الإسرائيلي، الأمر الذي تفطنت إليه تركيا، ورسمت الحدود مع الحكومة الليبية، وفرضت نفسها عليها، حتى إنه وصف حينها بالمشروع الميت، لكن مع الحرب الأوكرانية الروسية أعاد الطرفين التفكير بجدية وبمنطق البراغماتية، وخاصةً أن الشركات الروسية كأحد المعول عليها في التنقيب مفروض عليها عقوبات اقتصادية، ما دفع ذلك إلى التقارب التركي الإسرائيلي، الذي عنوانه الغاز ليس فقط من سواحل لبنان (متنازع فيه)، إلى أوروبا، بل من روسيا إلى الكيان الإسرائيلي عبر تركيا.
كما أنه من جهة أخرى، فإن الكيان الإسرائيلي ومن منظور أمن الطاقة قد وقع والمغرب اتفاقية في مجال التنقيب عن النفط والغاز، قبالة السواحل الصحراوية (سواحل مدينة الداخلة المحتلة)، وهو مسعى له أبعاد متعددة، منها تنفيذ استراتيجية التطبيع والتقرب إلى دول الغرب الإفريقي، ثم ربما التغلغل إلى خليج غينيا، هذه المنطقة التي تشكل منطقة مهمة، ومحل تنافس قوى دولية، من حيث تربعها على مصادر النفط والغاز.
ومن خلال ما سبق يمكن القول إن الحرب الروسية الأوكرانية فتحت نافذة جديدة على العالم، وبيّنت الترابط بين القوة الردعية والعسكرية الهجومية، وبين القوة الناعمة النفطية، وكل هذه الأبعاد تشكل ركيزة لصناعة التفوق، وفرض منطق التوازن في القوة، وأنه من خلالها إذا ما امتلكت أي دولة تلك العناصر الثلاثة، فإن لها أن تفرض أجندتها وتسبق ذلك حكمة وتبصر في مواطن الخلل والضعف لدى الأطراف المنافسة، وصناعة حلف ومحاور تسبق أي تحرك نحو فرض منطقها، كما أن الدول التي تمتلك النفط والغاز دون أي تفكير في التأثير في موازين القوى العالمية، وبمنطق مصالحها وانخراطها في محاور دولية وإقليمية متينة، ستشكل الطاقة لديها عبئاً ومصدر تهديد لسيادتها، وستضطر إلى اللجوء إما إلى طلب الحماية ولتكن بطريق غير مباشر، أو الإذعان لتلك القوى التي لها العقيدة الاستعمارية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.