العجزُ هو الشعور المسيطر عليّ في كلّ لحظةٍ من الأيام السبعة التي قضيتها في التغطية الصحفيّة في المنطقة المنكوبة جنوبي تركيا. أعرفُ أنّ كلمة "العجز" ليست دقيقة بما يكفي لتوصيف مشاعري في تلك الأيّام التي لن تتركني أبداً، لكنّ اللغة لم تطوّر كلمةً يمكن لها أن تصف ما شعرت به.
وأمّا رائحة الموت فهي التي كانت تنبعثُ من كلّ شيءٍ حولي هناك. بيني وبين نفسي أقول ربما كان ما رأيتُه "بروڤة" صغيرة لما قد يكون عليه يوم القيامة.
(1)
في يومي الأوّل هناك، على جانبي الطريق بناياتٌ مهدّمة، أصوات الجرّافات التي لا تتوقّف عن حمل الرُّكام لتسهّل عمليّة البحث عن أحد الأحياء، أو الجُثث، عمّالُ الإنقاذ المُتعَبون، الأطبّاء والمُسعفون الذين لم يناموا منذ أيّام، والجنود المرهقون الذين يحاوطون المنطقة لتسهيل العمل على فريق الإنقاذ.
كنّا نصوّر في هذا الموقع، والجميع ينتظر، المُسعفون وفرق الإنقاذ، النّاجون المكلومون، الأطبّاء، أصحاب المساعدات، المتطوّعون، أهالي المنطقة، الجميع ينتظر أن تهدأ أصوات الجرّافات، وأن يلتقطوا أخيراً إشارات أنّ هناك أحياءً بالأسفل، وبين وقتٍ وآخر تأتي صرخةُ الفرح من أحد الواقفين، فقد جاءت أنباء أنّ هناك أحياء تحت الأنقاض.
الفرحُ هنا عشوائيّ، فالمرأة التي صرخت من الفرحة يعتملُ في صدرها الأمل أن تكون أسرتها من ضمن الأحياء تحت الأنقاض، لكنّ احتمالية أن يكونوا هم فعلاً ضئيلة جداً، فقد يكون الأحياء من بناية أخرى تماماً، فالمربع السكني كلّه أصبح أنقاضاً.
بين الأنقاض صَوَّرتُ لُعَب أطفال، صينيّة تقديم شاي فضيّة، مِلعقة انعكست عليها الشمس فجعلتها ناصعة جداً كالموت، والكثير من كتب الأطفال المدرسيّة.
كنتُ أنحني أمام كلّ هذه التفاصيل لألتقطها، ليس فقط لدواعي العمل، وإنما لسبب شخصيٍّ جداً أردتُ ولو لثوانٍ معدودة أن أخلِّدَ ذكرى الذين قضوا. أن يعرفوا لو كان لهم أن يعرفوا في عالم آخر أنّهم لم يُنسَوا، وأنّ تفاصيلهم الشخصيّة تبقّت ولم تُنسَ، فكرةٌ طفوليّة، لكنّ هذا ما يفعلهُ العجز بالإنسان.
كنتُ قد جهّزتُ نفسي لمواجهة المأساة "جيداً" كما افترضت. تركتُ مسافةً بيني وبين كلّ ما أرى، وكأنني كائن فضائي في مهمَّة خاصّة، ليس له علاقة أبداً بكوكب الأرض. وكلّما انحنيتُ لألتقطَ صورة لتفصيلة من تفاصيلهم مُحيت هذه المسافة رويداً رويداً، وضاعت كل الخطوات التي اتخذتها لخلق هذه المسافة الضرورية.
بين الرُّكام الخانق أرتدي قناعاً يقيني من الأتربة التي يُنتجها الركام وعمل الجرّافات، أنحني كلّ نصف دقيقة لالتقاط صورة. على بعد نصف متر كانت أمامي عُلبة هدايا صغيرة زهريّة اللون، انحنيتُ لالتقاط الصورة فانهرت بالبكاء دون إرادة منِّي.
انكببتُ على الأنقاض، وبكيتُ دونَ سبب، لماذا هذه الصورة بالذات هي التي فتحت شلّال الدموع؟ لا أعرف، لكنّها جعلتني أنفصل عن كلِّ شيء حولي وأبكي صامتاً دون توقُّف.
ظلّ هذا الموقع جاسماً على صدري، وهذه الصورة لا تفارق ذهني.
بعدما غادرنا الموقع بعدّة أيّام قرأتُ في الأخبار "الفرقة الصينية تقف دقيقة حداداً على الجثث التي استخرجتها من الأنقاض". كانت هذه الفرقة هي المسؤولة عن الموقع الذي كنّا فيه في يومنا الأوّل. إنّه الموت محيط بكل شيء.
(2)
بين الرُّكام قابلنا العديد من المسعفين والأطبّاء، ماذا أفعلُ أنا هنا؟ أقوم بعملي الصحفي.
هل عملي هذا يمنحني القدرة في هذه اللحظة أن أنقذ إنساناً من تحت الركام؟ لا، مع الأسف.
هكذا أجبتُ نفسي، وأغرمتُ لحظتها بالأطبّاء، هؤلاء الجنود الذين لم يناموا منذ أيّام، ويبكون كلما سألناهم عمّا رأوا.
في الكوارث يتأخَّرُ إدراكنا لبعض الوقت، يتوقَّفُ العقل عن عمليّة الإدراك، وقد تتبلّد المشاعر من هول الصدمة.
بعدما انتهينا من أحد المواقع المتهدّمة بالكامل كانت ملابسي وملابس زملائي مُتربةً كأنّنا خرجنا من تحت الأنقاض. خيَّم الصمتُ علينا لفترة ونحنُ ننهي عملنا في هذا الموقع، بدأَ حديثٌ حرّكَ الصمت بيننا، قالت زميلتي "هل لاحظتم الرائحة؟"، انتبهتُ لسؤالها: نعم! هنا رائحة جثث قويّةّ، هذه رائحة الموت!
بعد أيّام كنّا في موقعٍ متهدِّمٍ آخر في مدينةٍ منكوبةٍ أخرى، ونحن عائدون من العمل قالت لي زميلتي إنّ الغبار قد غطّى شعري كلّه، وأصبحت "أشيب"، تذكّرتُ في التوّ آيةً تصفُ ما شعرتُ به لحظتها "يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً".
أعرفُ أنّ سياق الآية مختلف تماماً عن هذا السياق، لكنّها أوّل توصيف خطر في ذهني حينها.
(3)
على مشارف أنطاكية توقّفنا لبعض تفاصيل العمل، وبينما نتحدّث مع بعثة الإنقاذ التابعة لسلطنة عُمان، وصلتنا أصوات ووجدنا أحد كلاب الإنقاذ قادماً هو ومُدرّبه من أحد المواقع المتهدّمة. انتظرنا دقيقتين، خرج عمّال الإنقاذ يحملون بطانيتين، بداخلهما جثّتان، تركوا الجثتين على الأرض وبدأوا بعض الإجراءات، ربّما كانوا يستعدون لإخراجِ جثثٍ أخرى.
في تلك اللحظة كنّا قد أنهينا ما جئنا لأجله في هذه المنطقة، نظرتُ للجثتين ثواني معدودة وقلت لزميليّ هيّا بنا، انطلقنا لأنطاكية، وأكملنا تغطيتنا لهذا اليوم. في المساء عدنا لمدينةٍ قريبة لإنهاء العمل وبعض الراحة، قبل النّوم بدقائق أدركتُ ما حصل.
التفتُّ لصديقي وسألته "هل أدركتَ أنّنا نظرنا اليوم للجثّتين وتصرّفنا دون وَجَل؟". فكّرَ صديقي لوهلة، لم يُدرك أيُّ مِنّا المشهد بشكل كامل. ربما لم نتصوّر أنّه حقيقي بما يكفي لنتوقّف عنده، ربما أخذنا تسارع الأحداث ورغبتنا في توسيع نطاق التغطية قدر الإمكان.
لكنّني الآن أدركتُ ما حدث: كانَ الموتُ هناك عاديّاً، صُدمنا منه في اليوم الأوّل، ثمّ تعوّدنا عليه بعد ذلك.
على الأقلّ هذا ما بدا لي الآن، ولا أدرى هل هذا المشهد ستكون له آثارٌ أخرى علينا لاحقاً أم لا، فقد تكرّر بنفس التفاصيل مرَّةً أخرى داخل أنطاكية: بجثتين داخل بطّانيتين، خلال دقيقة كانتا داخل كيسِ الموتى.
لا كلمات يمكنها أن توصِّف حجم الكارثة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.