في تعريفه لـ"الواقع الفائق"، المعمم من التجربة الأمريكية في عالم السينما والاتصال الرقمي، يعرّف بودريار أن الواقع الفائق هو الواقع الذي أصبح يفوق الواقع الحقيقي، الذي ينزاح شيئاً فشيئاً إلى واقع العالم الرقمي إلى غير رجعة.
بودريار هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، من منظري ما بعد الحداثة، واشتهر بكتابه "عنف العالم" ونظريته الشهيرة عن الواقع الفائق.
في هذه المقالة أختلف مع بودريار بجوهر طرحه النظري عن الواقع الفائق، الذي انبنى على تجارب تنبئ بانتقال العالم الواقعي إلى العالم الرقمي، فالواقع الفائق من وجهة تحليلي الشخصي بأنه يتعلق باستطيقا أي "الإدراك الجمالي" ما يسمى بالانزياح "أي الخروج عن السائد اجتماعياً"، لأن هناك أساليب جمالية تحكم التغيرات الاجتماعية النوعية، وهي ذاتها تحكم العالم الذي أصبح مجتمعاً واحداً عبر وسائل الاتصال الرقمي.
لأبسّط ذلك، هناك توجه استطيقي عند الكثير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، يدفعهم بشكل تلقائي لاستخدام الفلاتر عند كل عملية تصوير، ولا يمكن الحكم على هذا التوجه الاستطيقي عند المستخدمين بعدسة الاعتلالات والاضطرابات النفسية التي ليست عدسة مايكرو ترى دقائق الأشياء التي لا نستطيع رؤيتها، أو استبصارها بمعنى آخر.
في الواقع الفائق، تتشكّل الذات وتتفاعل مع العالم الاجتماعي المرقمن، الذي يرى بودريار أنه يعمل على إزاحة الواقع الفعلي إلى غير رجعة كما أسلفنا.
إن كان طرح بودريار صحيحاً، فهل يعني ذلك أن الإنسان يطوّر ويتطور في عالمه الاجتماعي؟ وهل يعني التطور أن الإنسان يتقدم؟ وإلى متى سيظل الإنسان يقارن ذاته الآنية بالذات في مراحل سابقة من تاريخه الماضي حتى يشبع نزعاته بالتقدم؟
انطلاقاً من هذه التساؤلات هناك نزعة استطيقية تجعل الإنسان يحكم، ويقارن، ويختبئ، ويتزين، ويخفي، ويُظهر ما يريد أن يظهره، هذه الأنا التي تشكّل مستقبلها بالخروج من المرحلة الآنية، إنها نشطة ما دامت تشعر وتفكر وتتفاعل مع العالم، وفق ما ترغب به، وما يرغب به العالم، أو وفق ما توجهها إليه الطبيعة.
إذا كانت الاستطيقا نزعة لدى الإنسان، فإنها تواجه نزعة المنطق، الذي يحب التقرير والاختيار، والاعتماد على الذوات الأخرى ودراسة الظروف المحيطة والمثيرات البيئية.
سايكولوجيا الخوف
إن النزعة الاستطيقية قد يأخذ مكانها المنطق أحياناً، أما من جهة أخرى والموضوع المركزي في تاريخ الإنسان هو سايكولوجيا الخوف؛ فما الذي يمنع إنساناً من الخروج في يوم برد قارس عارياً؟
إنها أسباب عديدة ليس البرد وحده فقط يجعل الإنسان يخاف على ما يملكه وما يؤلمه بحق، فالخوف ملازم للألم، ولاحظ أن الخوف يبدأ فيزيائياً من منطقة البطن، ويقبض المعدة، التي بدورها تدفع الحجاب الحاجز فتقوم الرئتان بإخراج الهواء، وزيادة إفراز هرمون الكر والفر. إنني أشير هنا إلى تفسير الخوف بشكله الفيزيائي البحت، لكن للخوف سايكولوجيا ذات أبعاد اجتماعية، وثقافية.
فالسؤال الذي أطرحه مجدداً حول مسألة الفلتر المستخدم في التصوير، هل له علاقة بسايكولوجيا الخوف، التي تتفرع منها مشاعر الخجل؟ وهل من الممكن أنه قد يتولد عنها إبداع في الاحتماء من الأفكار والمثيرات التي تعد مصدر الخوف لدى الذات ما بعد الحداثية، التي تتشكل في عالم الواقع الفائق، وتتعاون في تشكيله عبر نمط متفق عليه عالمياً.
لذا ما الذي يجعل شاباً فلسطينياً ينوي الاستشهاد، أو يعلم أن هناك خطراً محدقاً به، أن يقوم بتسجيل صوتي أخير له، بدلاً من استخدام ورقة وقلم كما فعل شهداء من قبله؟ أليست مسألة متعلقة بالذائقة الاختيارية الاستطيقية أو الجمالية للطريقة التي يعبر بها عن رغبته بالاستشهاد، كما إدراكه لجمال فكرة التضحية بالجسد ذاتها؟
وما الذي يجعله كذلك أن ينشر على صفحته الشخصية رسائل وعبارات إيحائية تلمح بدنوّ أجله؟
إن رغباتنا وانفعالاتنا وأفكارنا وسلوكياتنا تتآلف مع الواقع الفائق لدرجة أننا أصبحنا نوثّق كل تفاصيلنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا ليس بظاهرة "سايكواجتماعية" جديدة، فالإنسان ينزع إلى التوثيق، وقد بدأ يوثق على الحجارة في بدايات تاريخه.
لذا ليس لنا الحق في الحكم بعدسة المنطق على الإنسان في نزعاته المستمرة، ربما يحكم هو على ذاته، ويشكّل منظومات اجتماعية تمنطق سلوكياته ومشاعره وأفكاره؛ فهناك أشياء كثيرة يرغب الإنسان في أن يوثقها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يمنطقها بعض مستخدمي وسائل التواصل بأنها تافهة، أو لا لزوم لها.
هل سيحاول البشر توثيق كل تفاصيل حياتهم؟
بنظري مستقبلاً، سيحاول الإنسان أن يوثق أشياء لن تخطر على بال الإنسان الآني، وربما ما نراه بشعاً سيكون جميلاً بالنسبة للأجيال القادمة من المستقبل، فستجد الأجيال توثيقاً يحمل دقائق الأشياء تجعلها تستمر في عملية المقارنة، لتحقيق التقدم، حسب الوصف المتنقل والشائع. وربما ليس التقدم تقدماً كما أسلفت، فلست هنا لأحكم.
لذا فإن عملية المقارنة سلوك نفسي اجتماعي ذاتي أو موضوعي، أو مركب من كليهما معاً، فالقول إن المقارنة سلوك ذاتي يعني أنه سلوك تلقائي، أما أنه موضوعي، فهناك مثيرات بيئية تحفز الإنسان على مقارنة الذات وانهماكها في العالم الاجتماعي، لتشكيل الشخصية الاجتماعية والامتثال للعالم الاجتماعي.
عودة إلى فكرة النزعة الاستطيقية وعلاقتها برقمنة الحياة، هناك استطيقا لدى الرأسمالي الذي يبيع المستهلكين في كل العالم خدمات وسائل التواصل الاجتماعي، إنها استطيقا مبنية على خصوصية عالية لنزعته نحو تشكيل عالم اقتصادي استعماري خاضع له ولشروطه الاستطيقية التي نمنطقها على أنها بشعة ليس فيها أي شكل من أشكال الجمال، فهي تحمل بشاعة لا مرئية.
حيث إن الرأسمالي يرى العالم جميلاً حين يمارس عليه الاستغلال لتضخيم ثروته الرأسمالية وتوسيع مستعمراته في العالم، التي أصبحت مرقمنة، ويخضعها لمراقبته وعقوباته وسياساته. وهنا يسعنا القول إن بودريار كان موفقاً في ربط الاغتراب النفسي بالواقع الفائق، فالناس الذين لا يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي قد يشعرون بالاغتراب في مجتمع يتجه نحو رقمنة كل شيء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.