أحدثت خرجات خبير التغذية محمد الفايد الأخيرة مفاجأة؛ كونها صدرت على عكس مجرى الاتجاه الذي اعتاد السير فيه بقراره الاشتباك مع قاعدة متابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي، الشيء الذي أحدث ضجة كبرى بعد سلسلة من ردود الأفعال بين أنصاره ومعارضيه الذين استهوتهم هذه المعركة التي تعفيهم من التصدي لقضايا مصيرية كبرى لم يسمع له ولا لهم صوت فيها، في الوقت الذي لا يجد فيه جل المغاربة ما يسدون به حاجياتهم الضرورية.
يصعب الخروج بخلاصات واضحة من الكلام المرسل الذي تفوه به خبير التغذية المذكور المليء بكيل الشتائم، وصولاً إلى الطعن في بعض الثوابت الإسلامية بأسلوب شعبوي غير لائق، مع تركيزه في هجومه على من يتصدر الشأن الدعوي الذين، وإن اتفقنا على أنهم يستحقون النقد، إلا أنه لا يختلف عنهم، فسقطاته أكثر من أن تحصى، وما دعوته لصيام المريض وتشكيكه في رجولة من لا ينحر أضحيته إلا مثالين حيين على أن فاقد الشيء لا يعطيه، وعلى أن المتنور المزعوم لا يملك الأهلية للغوص في موضوع التجديد.
كما أنه رغم حدة سجاله فهو وإياهم ينتمون للتوجه المهادن للسلطة نفسه، فكلهم يبحثون عن الاستعراض الأجوف غير المكلف، وكلهم يتملقون بمناسبة ودون مناسبة، وكلهم سكتوا عن إدانة التطبيع وغلاء الأسعار وملفات الاعتقال السياسي، فلماذا يراد تلميعه وإعادة تسويقه كرمز من رموز الحداثة المؤمنة المتمردة؟ ولماذا تدفع النكاية البعض بالطرف الذي يشتبك معه الفايد للانتصار له ولإنزاله منزلة لا يستحقها؟
إن الباحث يستمد قوته من مختبره ومن أبحاثه ودراساته، فلا ينطق كلمة إلا في تخصصه، معتمداً على التجربة وعلى البحث المضني بالدليل والبرهان، وهو ما يجعله يتحرى الدقة فيما يصدر عنه، أما حين يتمرد على كل هذا ويلبس عباءة اليوتيوبر ويدمن الظهور أمام الكاميرا بالساعات ويتحدث في كل شيء، فرصيده العلمي يتآكل ويفقد توازنه مع الوقت بعد أن تستهويه نجومية التواصل الاجتماعي التي يصبح أسيراً لها، وإلا فماذا أنتج من أبحاث حتى يفتي في جائحة كورونا أو في كأس العالم أو في الاجتهاد الديني؟! وقد تحول السجال معه إلى سجال عقيم بسبب افتقاره لآداب الحوار، إذ الموضوع الذي أقحم نفسه فيه لا يحتمل الخفة والابتذال اللذين طبعا أسلوبه النزق والذي لا يمكن تبرير انحداره بالحرقة على واقعنا المزري، فخبير الأعشاب وفيّ لمزاجه المتشنج دائماً، حتى وهو يتحدث عن فوائد السفرجل، والذي لم يفلح بعد للاهتداء إلى خلطة تعالجه وتهدئ من روعه، بعدما جلب له من الخصوم أضعاف ما استقطب من المتعاطفين.
من يتحول إلى يوتيوبر أو "مؤثر" على مواقع التواصل الاجتماعي من الصعب أن تنسبه لتخصصه القديم (صحفي، أكاديمي، فقيه…)، فتخصصه الجديد الذي يلبسه ويتبرمج على أدواته حتى ينسى نفسه، يحوله إلى كائن ثرثار يتكلم أكثر مما يفكر، عصبي تسهل استثارته، وإن لم يجد ما يهيجه يفتعل هو المشادة مع الآخر، متضخم الأنا لا يرى إلا ذاته، فهي أكبر من كل فكرة أو مبدأ يعتنقه.
محمد الفايد وآفة الانغلاق التي يدعيها!
إن آفة الانغلاق التي يرمي بها خبير التغذية طلبة العلوم الشرعية الذين يعانون من ضعف تحصيلهم في التخصصات العلمية والعلوم الاجتماعية واللغات ليست حكراً عليهم، فحتى المتخصصون العلميون والتقنيون يتسمون بمحدودية اطلاعهم خارج مجالاتهم، وفوق ذلك يستعلي بعضهم على تخصصات أخرى، والذين لا يرون أية حاجة لهم من التمكن منها، فهي أدنى في اعتقادهم من بضاعتهم، ومع ذلك يتطفلون عليها كما فعل الفايد الذي عرض نفسه للسخرية حين وظف مصطلح العلمانية في الطبخ وفي الأمراض.
على أن النشاط الدعوي، الذي يثير أعصاب الفايد والمعسكر الذي انضم له حديثاً، قاده مدنيون وكثير منهم أطباء ومهندسون وهم قد دخلوا المساجد قبل فرمان الفايد الأخير بعقود، وصلوا بالناس وخطبوا فيهم ووعظوهم، لكن الرجل قليل الاطلاع، والقائمة طويلة لأسماء من هذه العينة بصمت مسار التيار الإسلامي باختلاف تلاوينه من جماعات الإخوان المسلمين إلى السلفية الجهادية إلى تشكيلات إسلامية أخرى، فيما ظلت الهيئات الرسمية الدينية بعيدة عن التأثير في مجتمعاتها، ومع ذلك لم تُحدث هذه الطليعة العلمية ما يأمله خبير الأعشاب منها.
مؤسف هذا الاحتراب عالي النبرة الذي نشبه خبير التغذية والأعشاب المذكور، فلو أن الأطراف المتعاركة استغلت إمكانياتها التعبوية الهائلة من أجل معارضة القرارات لجائرة بحق المغاربة وبحق هويتهم، وإدانة عبرنة بلادهم ورهنه لها للقوى الاستكبارية العالمية، لكان حالنا غير هذا الحال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.