ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون التونسي المولد، القاهري الوفاة في العقد الأول من القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، والذي عاش جُل عُمره في القرن الرابع عشر الميلادي، القاضي والفقيه المالكي والمؤرخ الكبير، والعالم الرحّالة في مغرب ومشرق العالم الإسلامي في عصره، والمعتكف في قلعة نائية في المغرب الأوسط "الجزائر" يدوِّن تاريخه ومقدّمته الشهيرة، عاشق السياسة، والمعترك أخبارها وميادينها وقصورها ودهاليزها، والقريب من الأمراء والسلاطين، والموصوف بعد كل هذا بمؤسس علم الاجتماع، كان له نظرة ثاقبة في قيام الأمم والدول والحضارات وسقوطها، وقد سبق بنظرته الثاقبة المنظرين والمؤرخين الغربيين مثل توينبي وفرنان برودويل وول ديورانت وشبنغلر وغيرهم في هذا الميدان بستة قرون على الأقل.
لقد ألف ابن خلدون تاريخه "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" في أثناء مكوثه الهادئ في قلعة بني سلامة القريبة من مدينة وهران؛ حيث مكث فيها أربع سنين حافلة بالعطاء والتأليف، وألف المقدمة وحدها في خمسة أشهر في حدود عام 779هـ/1378م، ويُفهم ذلك من قوله: "فأقمتُ بها أربعة أعوام متخلياً عن الشواغل، وشرعتُ في تأليف هذا الكتاب، وأنا مقيم بها، وأكملتُ المقدمة على هذا النحو الغريب الذي اهتديتُ إليه في تلك الخلوة، فسَالَتْ فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها". وقد هُدي فيها إلى استنتاجات أصيلة عن العلوم والمعارف والصناعات وعن العلاقات الاجتماعية والحضارية وأسرارها وقوانينها، فكان ينتهج المقدمات الموصلة إلى النتائج ويطعّمها وقت الحاجة بالأدلة التاريخية والعقلية التي تؤيّد صحة ما توصّل إليه، وهو ما يمكن وصفه بالمنهج العلمي الذي تتكئ عليه العلوم الإنسانية والاجتماعية في يومنا هذا.
مقدمة ابن خلدون وفصل "أن الظلم مؤذن بخراب العُمران"
وما يهمّنا في مقدمة ابن خلدون الفصل الثالث والأربعون الشهير المتداول بين الناس متخصصهم وغير متخصصهم "في أن الظلم مؤذن بخراب العُمران"، وفيه يضع مقدمات عقلية تفضي إلى النتائج المتوقعة التي يُصدّقها التاريخ والواقع، فالرجل لم يكن فقيهاً مالكياً وقاضياً فقط، وإنما كان مؤرخاً وسياسيّاً مولعاً ببلاط السلاطين في الأندلس والمغرب وتونس ومصر والجزائر، وحتى في بلاد الشام حين التقى بتيمورلنك وقد حدّثه حديثاً مهماً عن بلاده "المغرب" ثم كلّفه تيمورلنك أن يكتب عن جغرافيا المغرب الإسلامي الكبير ليعرفها المشارقة، ولعله أراد أن يضمها إلى إمبراطوريته المترامية الأطراف.
وفي هذا الفصل المهم الذي يعدّ دراسة تأسيسية كلاسيكية عن أحوال الدول والأمم والحضارات، وما يُحدثه فيها انتشار الظلم واختلال العدل، ينطلق ابن خلدون من مقدمة منطقية تقول: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السّعي". فهذه هي المقدمة رقم 1.
ثم ينتقل إلى المقدمة التالية حين تضعف همّة الناس عن السعي ويزهدون فيه؛ لأن أموالهم ستُنهب بالضرائب والمكوس أو الأخذ الجائر حينها يبحثون عن العدل والأمن والمكاسب، يقول: "فإذا قعد النّاس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتفضت الأحوال وابذعرّ [تفرّقَ] النّاسُ في الآفاق من غير تلك الإيالة (الولاية أو الدولة) في طلب الرّزق فيما خرج عن نطاقها؛ فخفّ ساكن القطر وخلت دياره وخرجت أمصاره". فهذه هي المقدمة رقم 2.
وإذا انتقل الناسُ جماعات إلى ولاية أو دولة أخرى يجدون فيها ما يتطلعون إليه من العيش الكريم؛ "اختلّ باختلاله حال الدّولة والسّلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادّتها ضرورة"، وضرب على ذلك مثالاً من تاريخ المسعودي الذي حكى عن أحد ملوك الفُرس أموراً كانت ستؤدي إلى خراب دولته لولا أن تداركها أحد العقلاء من رجال الدين والحاشية ومنعه من الظلم الذي كان سيخرب دولته ومُلكه. وهذه هي المقدمة رقم 3.
ثم يُشدّد ابن خلدون في ذات الفصل على أن الظلم أعم وأشمل وأخطر من مجرد التعدي على أموال الناس، وأكلها بغير وجه حق، وإنما الظلم هو التعدي على الحقوق عموماً، لا سيما الضروريات الخمس التي هي مقاصد الشريعة الإسلامية، وقد جاءت بحفظها وصيانتها، ثم يستدرك على ذلك منطلقاً من وعيه الإسلامي كفقيه مجتهد، فيقول: "واعلم أنّ هذه هي الحكمة المقصودة للشّارع في تحريم الظّلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النّوع البشريّ، وهي الحكمة العامّة المراعية للشّرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنّفس والعقل والنّسل والمال".
ثم يعود ابن خلدون ويحذّر من التجبر على الرعايا في الأعمال الشاقة في تخصصاتهم الكسبية دون مقابل أو بمقابل لا يسدّ رمقهم، ثم يُعرّج فيحذّر من الاحتكار وعاقبته، فيقول: "وأعظم من ذلك في الظّلم وإفساد العمران والدّولة التّسلّطُ على أموال النّاس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثمّ فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه".
وفي نهاية فصله الآنف يصل ابن خلدون إلى الاستنتاج الذي انتظرناه منه؛ إذ "العدوان على النّاس في أموالهم وحُرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة، وتنتقض الدّولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض".
والآن دعونا نتأمل في هذه المقدمات والنتائج التي توصّل إليها ابن خلدون ويصدّقها بلا شك التاريخ والواقع، إذ إن سبباً رئيسياً في هجرة العقول العربية والإسلامية إلى بلاد الغرب سببه الرئيس يعود إلى انعدام الفرص والعدالة والفقر في الشرق، ونحن لا نجد مثلاً للعكس، لا نجد ظاهرة الهجرة الجماعية من علماء الغرب إلى الشرق؛ لأن مبدأ تكافؤ الفرص، ودولة القانون والتقاضي النزيه هي عوامل قوة هذه الدول الغربية.
لكن ما لم يقله ابن خلدون أو يتصوّره لاختلاف نموذج الدولة في العالم الإسلامي والعالم القديم عموماً عن شكله في عصر الدولة الحديثة التي باتت مهيمنة على كل شيء، وهي أساس النظام العالمي المعاصر، أن الانتقال والهجرة من بلدة إلى أخرى لم يعد بالأمر السهل الذي يذكره ابن خلدون؛ فإذا كان الانتقال والرحلة في أزمنتهم قراراً لا يأخذ من أحدهم دقائق أو ساعات في التفكير ثم التوكل والانطلاق؛ حيث لن تعوقه حدود أو قيود أو أوراق ثبوتية وفيزا سفر، وقوة جواز سفر أو بالأحرى ضعفه؛ ولقد انطلق ابن خلدون نفسه من تونس إلى الجزائر إلى المغرب إلى الأندلس (إسبانيا الإسلامية) ثم عاد منها في رحلته إلى بلدته تونس زمن الدولة الحفصية قبل أن ينطلق إلى مصر المملوكية التي استقبلته وفتحت له ذراعيها، وعمل فيها قاضياً للمالكية، وفقهياً كبيراً في المدرسة القمحية في القاهرة، ثم صار محترماً لدى السلطان المملوكي الظاهر برقوق قبل أن يزور الشام مرغماً في أثناء حروب تيمورلنك بصحبة السلطان المملوكي فرج بن برقوق.
إذا كان ابن خلدون وعصره والعصور التي سبقته ولحقته وحتى ربما النصف الأول من القرن العشرين كان الانتقال من بلدة إلى أخرى من أقطار العالم الإسلامي سهلاً ميسوراً، بل المقام بين أهليها لا يُعدّ غربة ولا كُربة، فإن العصر الحالي لأشد صعوبة في تحقيق هذا المنال، وإذا صعُب على عموم الناس في الأقطار التي يعتريها الظلم والفساد الإداري والاقتصادي السفر والارتحال، فإننا نلمس في كلامه إشارة تقول إن الظلم سيؤدي إلى "الهرج المفضي إلى الانتقاض". والهرج في لغة العرب تعني القتل، وتعني الاضطراب والفتنة الجماعية، فكأن الرجل أدرك قبل سبعة قرون أن مآلات الظلم تمرد وثورة غير واعية لا تترك الأخضر ولا اليابس، حتى يتداعى بناء الدولة، ويؤدي كل ذلك إلى "الانتقاض"، ونحن اليوم نقول على البناء المنهدم "أنقاضاً"، فالظلم يعني خراب العُمران والحضارة والدول، وقد رأينا ذلك في بعض الدول العربية في نماذج سوريا واليمن كأمثلة حيّة على بشاعة هذه النتيجة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.