شغلت الرأي العام في السودان هذا الأسبوع التصريحات غير المتوقعة لنائب رئيس مجلس السيادة السوداني، المنقلب على السلطة المدنية وقائد ميليشيا "الجنجويد"، محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، الذي ظهر في خطاب مُتلفز بثته القنوات الرسمية من مقر قواته "الدعم السريع" في العاصمة الخرطوم، قال فيه: "إنه نادم على مشاركته في انقلاب 25 أكتوبر عام 2021م".
يعني بذلك الاعتذار الانقلاب الذي قاده هو وزميله قائد الجيش، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، وأنكروه وقتئذٍ جملةً وتفصيلاً، وبأنه ليس انقلاباً بل كان تصحيحاً لمسار ثورة ديسمبر المجيدة عام 2015، الأمر الذي أصرّوا عليه ولم يتراجعوا عنه، وخرج فيه قطاع كبير من الشعب السوداني رفضاً لتقويض عملية الانتقال الديموقراطي في البلاد.
فمن دعا للتحول الديمقراطي هو الدكتور عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني السابق، الذي انقلبوا عليه واعتقلوه في مكانٍ مجهول حتى أعادوه ليعمل معهم، لكنه لم يستمر، فقدم استقالته للشعب احتراماً لتضحيات الشعب، والمواكب التي ظلت تملأ شوارع العاصمة والولايات ولا تزال مستمرة، للمطالبة بإسقاط هذا الانقلاب المنكور، الذي تسبب في مقتل المئات من الشباب والآلاف من الجرحى الذين فقدوا أعضاء حيوية من أجسادهم، كالعين والأطراف إثر الإصابات البليغة التي تسببت فيها قوات انقلابهم المشؤوم؛ حيث قتلت العشرات من خيرة الشباب السوداني.
لم يكترث أحد لهؤلاء المتنكرين من أن يعترض أحد على الثاني في وقف قتل المتظاهرين الذين جعلوهم مجرد سلم يصعدون عبره المنابر، ثم يحدثون الناس بكل كبرياء عن ثورة ديسمبر المجيدة، وتضحيات شبابها، يا للعجب العُجاب، والويل للظالمين من يوم المواجهة.
اعتراف حميدتي الصريح بالانقلاب، واعتذاره عنه، ما هو إلا ردة فعلٍ لحالةِ الغضب والهياج الشديد، الذي يفسرُ جلياً للمتابع البسيط أن الخِلافات المكتومة بين قادة المجلس العسكري الانقلابي في السودان من "الجيش والدعم السريع" قد وصلت ذروتها وبرزت إلى السطح ملامحها كما الشمس في رابعة النهار.
خلافات حميدتي والبرهان
لتؤكد للجميع كل ما ذهبت إليه التقارير والتحليلات التي دائماً ما كانت تشير بوضوح إلى بوادر هذه الأزمة التي يحاول البرهان ونائبه تفنيدها ونفيها في جُل خطاباتهم وتصريحاتهم عندما يستدركُون في كل مرة بأنهم بحاجة إلى تكذيبها، والتأكيد على أن العلاقة بينهما طيبة و"سمن على عسل" كما تقول العبارة، حتى شهد شاهدٌ من أهلها بعد أن وصل الأمر من مرحلة السجال والاستفزاز الخطابي إلى مرحلة الغرق أو القفز من المركب قبل الغرق.
فما الذي حدث يا ترى وقلب موازين الدنيا رأساً على عقب؟ الحقيقة هي عكس ما يستوعب بعض قادة تحالف قِوى الحرية والتغيير (قحت) المخدوعين بكلام حميدتي واعتذاره، حيث بدأ بعضهم يتغزل في حميدتي ويصفه بالشجاع، ويثني عليه ثناء الخير كُله.
بالله أي تناقض هذا؟ في وقتٍ قريب كانوا ألدّ خصومه السياسيين المعارضين له ولأطماعه الكبيرة التي ما تحققت إلا بسيل دماء الأبرياء من الشعب السوداني، على أيدي قواته "الدعم السريع"، أو بممارسة الخداع ونقض العهود الذين شكلوا مسيرته وحياته السياسية والاجتماعية سواءً بأفكاره أو بأفكار الذين يصنعون له التحولات من حين لآخر.
السؤال الذي يطرح نفسه هل خطابه الأخير شكّل نهاية البداية، أم أنه بداية النهاية لبدء مرحلة جديدة؟
بكل تأكيد حالة التوتر التي تشهدها المؤسسة العسكرية اليوم هي نابعة من التخوفات التي أسلفنا ذِكرها في مقالنا السابق، وهي الخلافات أشعلها خطاب شمس الدين الكباشي من جنوب كردفان، الذي بدوره شكل كل هذه الضجة الكبيرة.
فالنفوذ الكبير الذي يلعبه حميدتي جعله خصماً كبيراً على قيادة الجيش، ولابد من إجراء عمليات جراحة سياسية عميقة لإصلاح هذه الاختلالات التي سببها وجود قوات الدعم السريع في المشهد العسكري السوداني؛ حيث تناطح الجيش الوطني السوداني في قراراته.
لو عدنا للوراء قليلاً لوجدنا مُسلمات هذه الإجراءات بدأت تتكشف قبل خطاب البرهان في منطقة "الزاكياب" بولاية نهر النيل الأسبوع الماضي، الذي يأتي تباعاً لخطاب الكباشي، المشترط فيه دمج قوات حميدتي في الجيش لحل الأزمة في البلاد، وهو ما يعني إزاحة الصخرة الكبيرة التي بينهم أولاً، ولا سبيل غير ذلك. وعلى ذات النسق البرهان قال بصريح العبارة "الاتفاق الإطاري قبلناه لأن فيه بنداً مهماً، وهو دمج الدعم السريع في القوات المسلحة".
ظهور حميدتي من مقر قيادة قواته في نفس التوقيت الذي كان فيه البرهان والكباشي في جنوب السودان، وهما يوقعان على النسخة المعدلة لاتفاق جوبا للسلام، الذي كان يرعاه حميدتي بنفسه ولم يسافر إلى جوبا برفقة حركات دارفور المسلحة، أمر يثير التساؤلات: لماذا لم يشهد حميدتي توقيع هذا الاتفاق؟
ويبنى على التساؤل السابق سؤال آخر: هل صحيح أنه تم تقليص أدوار حميدتي السيادية، وبقي فقط دمج قواته بالجيش السوداني؟ ما الذي يجري في قيادة الجيش؟
الإجابة وفقاً لمتابعاتي للعديد من المصادر أن سبب الخلاف بين البرهان وحميدتي هي اعتزام البرهان حل مجلس السيادة خلال الأيام المقبلة، وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة برئاسته، على أن يظل البرهان في مهامه السيادية ويختار نائباً له يكون رئيساً لهيئة الأركان، ووفق التراتبية فالعديد من المصادر الصحفية أشارت إلى شمس الدين الكباشي، بحكم خبرته العسكرية سيكون هو النائب للمجلس السيادي ورئيس هيئة الأركان.
أما تقليص نفوذ حميدتي فتأتي في إطار استخدم نفوذه بحكم منصبه السيادي كنائب لرئيس المجلس السيادي لاستغلال تحركاته، باعتباره الرجل الثاني في الدولة، وهذا ما تسبب أيضاً في كل هذه الخلافات المكتومة بين الرجلين قبل بروزها إلى السطح خلال الأيام الماضية.
رافقت هذه الإجراءات بحق حميدتي سحب ملف جوبا للسلام منه، وتسلمه الكباشي نيابة عن الحكومة وبدلاً عنه، حسب ما أوردته الجزيرة نت، حيث ذكرت أن هذه الخلافات سعت دولة الإمارات لاحتوائها بزيارة البرهان أبوظبي يوم الثلاثاء الماضي، بينما سافر حميدتي اليوم إلى الإمارات، والتقى المسؤولين الإماراتيين هناك.
لم تنشر تفاصيل جديدة حول زيارته غير أنها تأتي في السياق الذي ذهبت له العديد من التقارير الصحفية، لتؤكد أن تصاعد الخلافات بين قادة الانقلاب مستمر، وأن الأيام حبلى بالكثير من المفاجآت، وقد تكون تصريحات حميدتي الأخيرة بداية النهاية لمستقبله السياسي في السودان
لذلك فعلى قوى الحرية والتغيير أن تعي معنى عودة العسكر للثكنات، وخطورة تحكم قائد الدعم السريع "حميدتي" في المشهد السياسي.
فلا أحد ينجو من الغرق، وغداً قاعات المحاكم سوف تجمع، وعند الله سوف يجتمع الخصوم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.