نُشر في فبراير الجاري كتاب "التوازن العسكري" لعام 2023، الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية "IISS"، وهو مركز دراسات بريطاني يحتل المرتبة الرابعة عالمياً ضمن قائمة أفضل المراكز البحثية في مجال الدفاع والأمن القومي، بحسب تصنيف جامعة بنسلفانيا.
يصدر كتاب التوازن العسكري سنوياً منذ عام 1959، ويحلل الصراعات الدولية والإقليمية والمحلية، وفق تقسيم جغرافي يشمل (أمريكا الشمالية، أوروبا، روسيا وأوراسيا، آسيا، الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أمريكا اللاتينية والكاريبي، جنوب الصحراء الإفريقية)، كما يتناول الإنفاق العسكري وقدرات كل دولة من ناحية عدد السكان والدخل القومي، وحجم الجيوش ونوعية التسليح لأفرع القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية، والقوات الأجنبية المنتشرة على أراضيها أو بعثاتها العسكرية الموجودة في الخارج. وفي ظل صعوبة شراء الكتاب لارتفاع ثمنه، البالغ 560 يورو للنسخة الورقية، وأهمية التحليل الوارد فيه للمشهد العسكري الدولي والإقليمي، فسأستعرض أبرز ما ورد في الفصل الخاص بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وإلى أين يتجه الصراع العسكري في العالم العربي؟
انعكاسات الصراع الدولي على المشهد في العالم العربي
يشير الكتاب إلى أن العديد من دول المنطقة، مثل مصر والعراق والسعودية والإمارات، فضلت الحياد فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، أو اكتفت بإدانة الغزو الروسي بشكل هادئ، دون الانخراط في العقوبات الغربية ضد موسكو، وذلك لنظرهم إلى روسيا كحليف محتمل في ظل تقلب المواقف الأمريكية.
لكن أدى الإخفاق الميداني في أوكرانيا والأداء الضعيف نسبياً لأنظمة السلاح الروسي إلى الإضرار بسمعة موسكو وموثوقيتها لدى الدول العربية بعد أن وصلت ذروتها إثر تدخلها في سوريا عام 2015 لدعم نظام الأسد. فيما تزداد المخاوف بالمنطقة من توطد التعاون العسكري الروسي الإيراني على خلفية إمداد طهران لموسكو بطائرات مسيرة، والحديث عن قرب تسلم طهران بالمقابل لطائرات سوخوي 35 الروسية المتطورة.
من جهتها، تدفع واشنطن باتجاه تعاون إقليمي بين الدول العربية وإسرائيل ضد إيران، حيث جمعت قمة النقب وزراء خارجية أمريكا وإسرائيل ومصر والمغرب والبحرين والإمارات، كما تجري مناقشات حول بناء نظام دفاع صاروخي إقليمي مشترك ضد الصواريخ والمسيّرات الإيرانية، فيما أطلق الجيش الأمريكي فرقة العمل "CTF-153" بمشاركة دول عربية وأجنبية في البحر الأحمر لمراقبة الأنشطة الإيرانية.
الإنفاق العسكري والصراعات الإقليمية
سأستخدم تعبير "الشرق الأوسط" لوروده في الكتاب، وذلك بالرغم من دلالاته الإمبريالية التي تعود إلى عهد الإمبراطورية البريطانية. فقد ارتفع الإنفاق العسكري في الشرق الأوسط إلى 187 مليار دولار عام 2022، مقارنة بنحو 173 مليار دولار عام 2021. وما زال حجم الإنفاق العسكري في المنطقة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي هو الأعلى عالمياً، بمتوسط يبلغ 3.8% مقارنة بمتوسط عالمي لا يتجاوز 1.7%.
يظل الجيش الإيراني هو الأكبر في المنطقة من حيث الحجم بعدد يبلغ 610 آلاف جندي، إلا أن هذا لا يعكس بمفرده قوة طهران التي تواجه مشاكل اقتصادية متفاقمة في ظل استمرار العقوبات الغربية عليها، وقد وصل معدل التضخم بإيران 40.0% مقارنة بمعدل التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي يبلغ 3.6% فقط. كذلك واجهت إيران احتجاجات داخلية عقب مقتل الشابة مهسا أميني بعد توقيفها على يد شرطة الأخلاق.
يشير الكتاب إلى أنه منذ عام 2011 اجتاحت المنطقة 3 صراعات في اليمن وليبيا وسوريا، تحولت إلى حروب أهلية طاحنة. ورغم أن تلك النزاعات شهدت مستويات منخفضة من القتال عام 2022، فإنها قد تقود مستقبلاً إلى مواجهات بين عدة دول منخرطة فيها.
أولاً: اليمن
في اليمن تم الاتفاق على وقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة في أبريل 2022، واستمرت الهدنة إلى أكتوبر من ذات العام، لكن رفض الحوثيون تجديدها، رغم موافقة الرياض على التجديد، وذلك عقب فشل المحادثات السعودية الإيرانية، التي جرت بالعراق في التوصل إلى اتفاق بشأن اليمن.
يرى الكتاب أن الحوثيين وافقوا على الهدنة في البداية على أمل توظيفها في إعادة تجميع صفوفهم وجلب أسلحة وذخائر لشن هجمات جديدة، بينما قبلت به السعودية لتهدئة المجتمع الدولي تجاه تفاقم الأزمة اليمنية، ولتقليل التعرض لهجمات الحوثيين الصاروخية التي استنفذت المخزون السعودي من صواريخ باتريوت. وتوجت الرياض سياساتها بإجبار الرئيس اليمني، هادي منصور، على الاستقالة، وتشكيل مجلس رئاسي جديد يهدف لجمع مكونات متعددة في كيان واحد، لكنه تحول إلى كيان متنازع على صلاحياته. وعلى الصعيد الميداني حقق الحوثيون تقدماً عسكرياً في الجنوب والشرق، فيما تمددت الميليشيات المدعومة من الإمارات في شبوة وأبين، وعلى طول الساحل الغربي، بينما احتفظت القوات الحكومية بنفوذها في مأرب.
ثانياً: سوريا
لم تتغير خطوط القتال الرئيسية في سوريا بشكل كبير في عام 2022، ووصلت وتيرة القتال إلى أدنى مستوياتها منذ بداية الثورة. فيما يظل نظام الأسد أضعف من أن يوطد سلطته في شمال غرب وشمال شرق سوريا.
ورغم احتفاظ موسكو بوجود نحو 4000 جندي روسي في ميناء طرطوس وقاعدة حميميم الجوية، بالإضافة إلى غرفة عمليات وفريق استخبارات عسكرية في دمشق لتنسيق النشاط الروسي في عموم البلاد، فعندما بدأت الحرب ضد أوكرانيا، قلص الأسد من عملياته العسكرية ضد المناطق المحررة، فيما حاولت إيران الاستفادة من الانشغال الروسي في ترسيخ وجودها بسوريا، كما شنت الجماعات المدعومة من طهران هجمات صاروخية وبطائرات من دون طيار ضد القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، وهو ما رد عليه الجيش الأمريكي. ومن ناحيتها كثفت إسرائيل هجماتها ضد الوجود الإيراني وصولاً إلى مهاجمتها مطار دمشق لمنع استخدامه كممر إمداد للأسلحة الإيرانية.
من جهتها، حاولت تركيا الاستفادة من الانشغال الروسي في التهديد بشن عملية عسكرية ضد المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الكردية في شمال وشرق سوريا، لكن أعاق الرفض الأمريكي والروسي حدوث ذلك، فيما سعت موسكو للتقريب بين أنقرة ودمشق على حساب الجماعات الكردية؛ لتجنب تغير المعادلات على الأرض بعيداً عنها. وتمثّل الحدث الأبرز في صفوف فصائل الثورة بسيطرة هيئة تحرير الشام على بعض المناطق من فصائل الجيش الوطني، بينما واصل تنظيم داعش نشاطه في البادية ودير الزور.
ثالثاً: ليبيا
حاول باشاغا، بدعم سياسي من مصر، الاستيلاء على السلطة في طرابلس عبر هجوم عسكري، لكن رئيس الوزراء عبدالحميد دبيبة نجح بدعم من فصائل طرابلس ومصراتة فضلا عن تركيا في صد هجوم باشاغا وطرده من طرابلس. كما اتفق دبيبة مع حفتر على تقاسم النفوذ فيما يخص المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي.
على جانب آخر، احتفظت ميليشيا فاغنر الروسية بما يتراوح من 1500 إلى 2000 مقاتل يتواجدون إلى جانب قوات حفتر في مواقع حيوية قرب المنشآت النفطية. ولم يحدث انخفاض ملحوظ في الوجود الروسي بليبيا رغم الحرب في أوكرانيا، حيث يمثل الملف الليبي أداة ضغط بيد روسيا ضد تركيا والدول الأوروبية.
رابعاً: العراق
على عكس ليبيا وسوريا واليمن، ازداد العنف في العراق عام 2022، رغم تراجع الاحتجاجات الشعبية التي بلغت ذروتها عام 2019. واتسع العنف على خلفية تزايد حدة الصراع بين أتباع مقتدى الصدر من جهة والأحزاب والميليشيات المدعومة من إيران في الجهة المقابلة، وحدث اقتتال في بغداد والبصرة وميسان وأماكن أخرى. فيما شنّت إيران وتركيا عمليات عسكرية ضد الفصائل الكردية المعارضة لكل منهما في كردستان العراق.
قراءة مستقبلية
يشير كتاب التوازن العسكري إلى أن مستويات الصراع في المنطقة وصلت في عام 2022 إلى أدنى مستوياتها خلال العقد الأخير، على وقع انشغال دول المنطقة بالتعافي من تداعيات كورونا، وتحسين أوضاعها الاقتصادية لتقليل آثار التضخم، وهو ما تزامن مع اهتمام الدول الكبرى بملفات أخرى مثل الحرب في أوكرانيا. ولذا برزت عمليات تقارب بين تركيا وكل من إسرائيل والإمارات والسعودية ومصر، كما ازداد التقارب بين مصر وقطر، فيما رعت واشنطن اتفاقية تقاسم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، مما أزال التوتر الذي تصاعد بين حزب الله اللبناني وتل أبيب بخصوص حقل كاريش للغاز. ولكن يؤكد الكتاب أن المخاوف الأوسع بشأن أنشطة إيران وتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا على المنطقة إلى جانب عدم وجود تسويات رسمية للأزمات المختلفة تشكك في إمكانية استمرار خفض التصعيد بين دول المنطقة على المدى المتوسط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.