تنتشر بين فجاج وقمم جبال "صاغرو" جنوب شرقي المغرب، وعلى جوانب أوديتها مقابر جماعية، هي خير شاهد على ما ارتكبه الجيش الفرنسي وأعوانه من جرائم بشعة، وقتل جماعي يرقى إلى مستوى جرائم الإبادة الجماعية، بمختلف أنواع الأسلحة بحق قبائل "أيت عطا".
جاءت هذه الجرائم بعد معركة ضارية وغير متكافئة، دارت رحاها في فبراير/شباط ومارس/آذار من عام 1933، بين مقاتلين بأسلحة بسيطة وغزاة فرنسيين مدججين بشتى الأسلحة الفتاكة من رشاشات وطائرات حربية وقنابل ومدفعية، ومئات المرتزقة والجواسيس.
تُسمي بعض المصادر الفرنسية معركة "بوغافر"، التي امتدت من 13 فبراير/شباط إلى 26 مارس/آذار 1933 "معركة الملاذ الأخير لأيت عطا".
بجانب مخلفات معركة "بوغافر" الشهيرة، التي تحل هذه الأيام ذكراها التسعين، من بقايا قنابل منفجرة، وأخرى لم تنفجر بعد، والتي تم جمع الكثير منها من طرف السلطات في وقت لاحق، وأنت تتجول بين شعاب جبل بوغافر، الذي تُنسب إليه تلك المعركة، تجد جماجم وعظاماً بشرية لم يحالف الحظ أصحابها لينالوا نصيبهم مما يكرم به الميت.
أما "المحظوظون" من شهداء بوغافر فقد تم على الأقل طمرهم بالحجارة، فيما يشبه مقابر جماعية تسمى محلياً "أغرن"، وتجمع على "إغرنان"، حيث لا يفصل بين مقبرة وأخرى مجاورة لها غير مقبرة ثالثة تضم على ما يبدو عشرات القتلى، ما يدل على بشاعة ووحشية الهجوم الفرنسي على شيوخ وأطفال ونساء، ذنبهم الوحيد أنهم آثروا الاحتماء بجبل "بوغافر" وكهوفه، على الخضوع لفرنسا وجنودها.
ففي حالة الحروب والمعارك لا يكون للمقاتلين وقت لدفن القتلى بالطريقة المعمول بها في حالة السلم، من تكفين وتحنيط وحفر القبر، ثم تسقيفه بألواح صخرية قبل تغطيته بالتراب، لذلك يتم الاكتفاء بجمع الجثت وردمها بالحجارة، حتى لا تنهشها الكلاب والحيوانات المفترسة، أو تنقرها الطيور الكاسرة.
ولأن معركة بوغافر لا تخرج عن هذا السياق، أي سياق القتال الذي لا وقت فيه حتى "لحك الرأس"، فما بالك بالقيام بجميع مراحل الدفن، فإن أهل قبيلة "أيت عطا" الأمازيغية لم يكن لديهم متسع لمواراة موتاهم كما ينبغي، فاكتفوا بإهالة الأحجار عليهم في مقابر جماعية، ووحده الله من يعلم هوية المدفونين فيها، وعددهم الذي لا شك أنه يصل إلى العشرات، وربما المئات، إذ يُقدّر بعض الباحثين عدد قتلى مقاومي "بوغافر" بما بين ألف وألفَي قتيل.
ففي الوقت الذي تكرّم فيه فرنسا ضباطها الغزاة، بإطلاق أسمائهم على الشوارع والساحات والمدارس والمؤسسات العمومية، نجد جماجم المقاومين في جبالنا تجرفها المياه، كما تجرف رفات الأغنام النافقة.
لذلك، وجرياً على عادة الأجداد الذين كانوا يصرون على دفن قتلاهم، ولو في المعامع، وبأي طريقة، كانت الحال في ملحمة "بوغافر".
بعض الشباب أخذوا على عاتقهم منذ مدة مبادرة جمع الجماجم التي كانت متناثرة هنا وهناك، تجرفها المياه وتتقاذفها الرياح، وطمروها بالأحجار، وهو أقل ما يمكنهم فعله بحق أولئك المقاومين المجهولين، الذين لا يذكرهم أحد ولا يعرفهم أحد، والذين دفعوا أرواحهم ثمناً لتحرير الوطن من عدو غاشم، يصر في كل مناسبة على إعطاء الدروس في التحضر والأنوار وحقوق الإنسان، ويداه ملطختان بدماء الأبرياء، دون أن يكلف خَلَفه نفسَه عناء الاعتذار على الأقل، لتبرئة نفسه مما ارتكبه أسلافه، وليظهر ولو تقية بأنه ضد ما اقترفه أجداده من جرائم، لمثلها يذوب القلب من كمد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.