تمرُّ البيئة السياسية والشعبية في الضفة الغربية بمنعطفٍ من التجاذبات والصراعات وحالة من التدافع البنيوي والهيكلي والمؤسسي بين خطين متوازيين لا يلتقيان أبداً.
الأول، وهو ما تشهده الضفة الغربية من حالة التفاف شعبي تجاه خيار الجهاد والمقاومة -على مختلف أشكالها- والتي ترجمت في تصاعد وتيرتها وبشكل لافت وكبير باتجاه أهداف صهيونية مختلفة، جعلت العدو الصهيوني في حالة قلق وتوتر، واضعاً ساحة الضفة الغربية كواحدة من التحديات الاستراتيجية الخمسة التي تواجه العدو الصهيوني إضافة إلى غزة وحزب الله في لبنان والتموضع الإيراني في سوريا والملف النووي الإيراني.
وترى قوى المقاومة أن الضفة الغربية بمثابة المعقل الاستراتيجي لها، وأن انفجار الشارع الفلسطيني بات محسوماً، وما هو إلا مسألة وقت. وتعي قوى المقاومة أن تحقيق ذلك سيؤثر بشكل جذري على مجريات الأحداث تجاه العدو الصهيوني، وبأبعادها التكتيكية والاستراتيجية.
الخط الثاني، يتجسد في السلطة الوطنية الفلسطينية التي تصرّ وعبر أجهزتها الأمنية على أن تمضي رغم حالة ضعفها، من منع تصاعد حالة المقاومة في الضفة؛ حيث ترى في ذلك خطراً استراتيجياً على مستقبلها. وتكمن وظيفة السلطة كما يقول "عدي كرمي" -أحد أعضاء جهاز "الشاباك"- في مكافحة "الإرهاب" من خلال تنفيذ وتعزيز التنسيق الأمني مع إسرائيل.
يحاول أن يُبرز هذا المقال أداء السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ويرصد آخر استطلاعات الرأي لدى الشارع الفلسطيني ونظرته تجاهها.
أداء السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية
أُسست السلطة الوطنية الفلسطينية على أساس اتفاق أوسلو، الذي وُقّع بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين الاحتلال الصهيوني في واشنطن في 13 سبتمبر/أيلول 1993، وفي إطاره تم إعطاء الفلسطينيين حكماً ذاتياً محدوداً في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة خمسة أعوام. وبناء على هذا الاتفاق، تمّ إعطاء الصلاحيات المدنية بشكل مؤقت لحين مفاوضات الوضع النهائي التي كانت من المفترض أن تجري بعد ثلاث سنوات من توقيعها.
وقد وقّعت السلطة الوطنية الفلسطينية على عشرات الاتفاقيات السياسية والأمنية والاقتصادية مع العدو الصهيوني برعاية عربية ودولية، منها: بروتوكول باريس الاقتصادي عام 1994، اتفاق القاهرة 1995، اتفاق طابا (أوسلو 2) 1995، اتفاق الخليل 1997، اتفاق واي ريفير بلانتيشين (1998)، مذكرة شرم الشيخ 1999.
أما عن التنسيق الأمني، فقد تحوّلت السلطة الفلسطينية بعد 30 عاماً على اتفاق أوسلو أو رسم لها أن تكون سلطة وظيفية تؤدي واجبها الوظيفي خدمة للاحتلال الصهيوني. وتاريخياً، خطا التنسيق الأمني خطواته الأولى عقب اتفاقية القاهرة عام 1994م، واتفاقية طابا "أوسلو 2" عام 1995م، كنتاج مباشر لما أفرزته اتفاقية أوسلو عام 1993م في بندها الثامن.
يقول جاكي خوجي، الكاتب الصهيوني بصحيفة "معاريف" العبرية، أنه وبفضل التنسيق الأمني، "جرى إنقاذ حياة الكثير من الإسرائيليين، حيث توفّر إسرائيل المعلومات الاستخبارية عن خليّة مسلّحة تخطّط لتنفيذ عمليّة ما، فينطلق الأمن الفلسطيني لاعتقال أفرادها؛ مما يعفي إسرائيل من المخاطرة بجنودها لدى تنفيذها عمليات الاعتقال".
وفوق ذلك؛ تأكيد رسمي جاء على لسان "يائير لابيد" حينما كان وزيراً للخارجية، ونقلاً عن "القناة 13" العبرية استمرارية هذا التعاون بقوله إن 90 % من علاقتنا بالسلطة الفلسطينية حول التنسيق الأمني.
التنسيق الأمني وبقاء السلطة الفلسطينية
ترى السلطة في التنسيق الأمني ضمانةً لوجودها، وتجنّده، كاستراتيجية لـ "كي الوعي"، في بناء أرضية ممنهجة للرضوخ وتجفيف بؤر المقاومة، بينما يختزل الاحتلال الصهيوني في تعاونه الأمني مع السلطة كياناً يحفظ أمن دولته ويزيح عن كاهله عبء أكثر من مليونَي فلسطيني تتولّى السلطة دور الوكيل الأمني عليهم، وما يترتب عن ذلك من إسقاط لتكاليف اقتصادية وجهود استخباراتية.
أما فيما يتعلق بانتهاكات السلطة الفلسطينية لحرية الرأي والتعبير، فإن حادثة مقتل الناشط الصحفي نزار بنات كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، فهي أدت إلى انفجار الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية.
أعادت ممارسات السلطة الفلسطينية بحق الصحفيين والنشطاء الإعلاميين والمدونيين وأصحاب الرأي إلى الواجهة، فلم تَكل السلطة الفلسطينية جهداً لقمع الحريات في الضفة الغربية بهدف إسكات كل ناقد لأداء السلطة، إن كان لناحية الفساد الإداري والمالي المستشري في هيكليتها، أو إن كان لناحية استمرارها في التنسيق الأمني وملاحقة المقاومين وسجنهم تعسفياً أو اغتيالهم أو العمل على تسليمهم للعدو الصهيوني.
حول تدني وتراجع التأييد الشعبي للسلطة الفلسطينية، قدّم مسؤول جهاز المخابرات العامة الفلسطيني، ماجد فرج، لعباس، ورقة تقدير موقف حول تراجع مكانة السلطة وتدنّي التأييد الشعبي لها إلى مستويات تاريخية في استطلاعات الرأي العام خلال الربع الأخير من العام 2021.
وأشار فرج إلى عدّة عوامل تسبّبت بهذا التراجع، من ضمنها وجود أشخاص دأبوا على مهاجمة السلطة وقادتها وحكومة حركة "فتح" وإثارة القضايا ضدّها، وآخرها قضية صفقة اللقاحات منتهية الصلاحية.
حجم الفساد داخل أروقة السلطة الفلسطينية
أما عن حجم الفساد داخل أروقة السلطة الفلسطينية، فيشكو معظم الشعب الفلسطيني من أن حجم الفساد في السلطة الفلسطينية لا يزال كبيراً وفي ارتفاع، وذلك بحسب استطلاع للرأي أجراه الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، وقال "الائتلاف" إن "الفلسطينيين غير مقتنعين بجدية جهود مكافحة الفساد، ويشككون باستقلالية هيئة مكافحته ويعتقدون بتأثرها بالسلطة التنفيذية".
ومن جوانب الفساد القائم في السلطة الفلسطينية، هدر المال العام، غسيل الأموال، التكسب من الوظيفة العامة، كما كشفت أول عملية تدقيق فلسطينية في 1997، أن 40% من ميزانية السلطة، بما يصل 326 مليون دولار أُسيء استعمالها، فيما حوَّل الاحتلال الصهيوني 500 مليون دولار لحسابات بعض المسؤولين الفلسطينيين في بنوكها.
ما يثير السخط داخل الشارع الفلسطيني، خطابات وأداء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والتي لا تعكس ولا تعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني ولا إلى تطلعاته الآنية أو المستقبلية.
في أكثر من خطاب لعباس رئيس السلطة الفلسطينية، أعلن فيها تأييده الكامل للتنسيق الأمني، وحل الدولتين والاعتراف بـ "إسرائيل". وينتهج "عباس" في سياسته، دور المخرب لكل جهد، أو إنجاز تحققه المقاومة الفلسطينية، ويعلنها بصراحة أنه ضدها ولا يريدها، متمسكاً بالسلام الكامل والشامل. دفع كل ذلك، أن يطالب أغلبية الشعب الفلسطيني "أبو مازن" بالاستقالة.
المستجد الآن هو الخلاف الداخلي الفتحاوي حول خلافة محمود عباس "أبو مازن" وهذا الملف محل قلق لدى العدو الصهيوني، ومنذ قرابة الخمس سنوات والعدو يطرح تساؤلات حول واقع المشهد الفلسطيني بعد مرحلة غياب محمود عباس عنها.
لهذا عقد سلسلة من الورش السياسية والأمنية والاستخباراتية، لدراسة الموقف ووضع المسارات و الاحتمالات والسيناريوهات المفترضة.
في 26 مارس/آذار 2022، تم تعيين حسين الشيخ، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ دفع ذلك إلى طفح الخلاف الداخلي بين رموز وقيادات فلسطينية فتحاوية عديدة، وسط سيناريوهات خطيرة ستنعكس على مستقبل القضية الفلسطينية بالعموم ومستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية بالخصوص،
حيث نشير إلى أن هناك سيناريوهات خطيرة قد تؤدي إلى مزيد من الانشقاق والتبعثر داخل الصف الفلسطيني، ما لم يتم التوافق بين المكونات الفلسطينية مجتمعة على إجراء انتخابات فلسطينية "تشريعية – ورئاسية".
السلطة الوطنية الفلسطينية تعاني من حالة اهتراء داخلي، وغضب شعبي، وباتت تشكّل عبئاً ثقيلاً على الجموع الفلسطينية ومقاومتها. كل المؤشرات، أو أغلبها تشير إلى أن السلطة الوطنية الفلسطينية، ولولا الدعم الأمريكي والتنسيق مع العدو الصهيوني، لأصابها الانهيار الكامل؛ ولذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستحرص على تجنب سيناريو انهيار السلطة، لأن هذا يعني حكماً، تهديداً مباشراً على الأمن القومي الصهيوني من جهة، ومصلحة لقوى المقاومة لاستلام الدفة وتنفيذ عمليات عسكرية نوعية باتجاه العدو الصهيوني من جهة أخرى، وهذا ما لا تريده أمريكا وحليفتها "إسرائيل".
خلاصة القول؛ يعتبر التنسيق الأمني بالنسبة للسلطة الفلسطينية أهم ركيزة لحماية بقائها وأن مسألة التنسيق الأمني بالنسبة للسلطة هي مسألة بقاء ووجود؛ حيث تدرك قيادة السلطة الفلسطينية أن لقرار وقف التنسيق الأمني من طرفها أثماناً باهظة ومكلفة، ستدفع الحكومة الصهيونية إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات القاسية ومنها سحب الامتيازات التي يتمتع بها كبار المسؤولين داخل السلطة، ولن تنتهي بوقف العائدات الجمركية للسلطة الفلسطينية بل ستصل في نهاية المطاف إلى حلها أو انهيارها.
إن قرار وقف التنسيق الأمني بتقديري تجاوز قيادة السلطة وبات مرتبطاً بتوجهات وحسابات إقليمية ودولية لا يمكن أن تقفز عنها قيادة السلطة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.