الكثيرون يتكلمون عن الزلزال، بعد الصدمة يأتي التفاعل، وأنا أقترح أن يلتفتوا أكثر وأكثر وأكثر تضامناً مع قلوب تصيبنا بالدهشة ويعقد اللسان بل تعجز اللغة عن التعبير وترتيب الكلمات مما استنزل بها ووقع لها.
وقد كان لأحد هذين البلدين اللذين ضربهما زلزال قيل إنه بقوة خمس مئة قنبلة نووية.. أرضاً تعرف للخراب لوناً وللألم طعماً وللفاجعة شكلاً، اصطدمت قبل ذلك بمصائب الدهر وتاهت في أدغال الشقاء، تريها الدنيا منذ أكثر من عقد مصيراً مكروباً بائساً مريضاً يخلبه السقم حتى ينكشف العظم.
حدث ذلك أمام دهشة العالم كله، وها هو ارتجاج آخر يحصل للإنسان وللمسلم خاصة: هل لا يزال ذلك الجسد العليل يحتمل؟ هل يعقل ما حصل؟
سرعان ما يزف إلينا الرد من قلب الحدث، فنسمع أفواهاً تلهج بالحمد بعد الفقد والدمار، وصدوراً ربط عليها الصبر بعدما دكت دكاً أليس ذلك عين اليقين؟ أليس ذلك كنز المؤمن؟ أليس ذلك بستان المحن وفضل النوائب؟ هو نحت الذات حتى يصل إلى عظم الجوهر وصميم اللب.
ان المحن يا سادة هي من صنعت رجلاً كـ"غاندي" حشد أربع مئة ألف هندي في كلمة ومناضلاً كـ"مارتن لوثر كينغ" ونبي كيوسف، وشعباً كشعب فلسطين.
حينما يكون للإنسان خيار حينها سنحتج، ولكن ما للإنسان من المصير إلا مصيره الأخروي ذلك المصير الوحيد الذي بيد الإنسان فقط، وطوبى لمن يظفر به.
لا شك أحياناً نرى من الدنيا ما يخلب العقول ويخرس الأفواه ويشل الفهم من مفاجآت وأعاجيب ومفارقات ومسارات أقدار غير متوقعة، تلك هي الدنيا عندما تتجلى للإنسان بهيئة الحجارة والحديد، تراها تقذف العوائق والمحن والمؤمن الخالص الصادق يرد في عناد "صبراً في بلاء" و"حمداً في شقاء"، فتستحيل مقابلة، فهي بحق جوهر الجهاد وسر الوجود.
في تلك اللحظة فقط يصح عود الإيمان وتنحت الشخصية على حجر وتثبت القدم فلا أمل في زلل وتنضب التجربة وكما يقول نجيب محفوظ "الحياة لا تعطي دروس مجانية لأحد، فحين أقول إن الحياة علمتني أني دفعت الثمن"، وصدق من قال "إن الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان".
ترى البلاء يلعب معك لعبة الكر والفر، وفي كل فر تقول: هذه هي الأخيرة سبحانك اللهم تعلمنا وتربينا، ولا تكاد تستريح لهذه الفكرة حتى يعود متجهماً، هالكاً في بطشه، مقبضاً بكفَّين من حديد عصاه الغليظة، وفي نزاله الضار معك تصرخ في لوعة: لقد اكتفينا.
لم أعد أحتمل أكثر، ويرد عليك من السماء: هو وحده من يعلم مدى قوة تحملك والغاية من تدريبك القاسي المنهك للقوى "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، "والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون"، "واصبروا إن الله مع الصابرين".
لكن أوَليست الأيام دول؟ فلماذا ينكس البصر وتذبل الجفون وتخر الهمة استكاناً وإحباطاً، ومن لم يذُق طعم المحن باختلاف درجاتها؟ "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" قانون أزلي وسُنة أبدية، ومن يضمن سفينته تشق عرض البحر هادئة مطمئنة؟ ومن الذي امتلك أدوات تستبق المحن فتخبوها قبل أن يقدر حدوثها؟ إذاً هما الصبر والمقاومة قانونان كانا سبب نزولنا لهذه الأرض وغايتها، فلا تبحث كثيراً عن إجابات هنا وهناك، حين يحل الكرب ذلكما المفهومان هما عمود الأمر.
إن أعظم تشبيه لمعنى وجود الإنسان في هذا العالم وأكثرهم نفاذاً ودقة وإحكاماً هي مماثلة رائعة وضعها الخالق -عز وجل- في آية كريمة تتحدث عن شجرة عظيمة: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".
إن كلمة زيتونة نجدها قد اشتقت من كلمة زيت الذي هو عصارة الثمرة، والعصارة بما هي الخلاصة والنتاج والزبدة وهي القصد والمراد والجوهر أيضاً، لا تستخرج إلا بعد ضغط وشد وكبس، وكلما اعتصرت الثمرة أكثر وسحقت أكثر صار الزيت أنقى وأصفى وأجود.
فإذا تحولت هذه التجربة إلى النموذج الحي الذي يحس ويشعر وله كيان وروح وإدراك وعواطف، كان الوضع مختلفاً للغاية، ولكن تبقى النتيجة هي هي قيمةً ورتبةً ونبلاً، وتلك هي خلاصة الحياة إذا ما تمت مقارنتها بشجرة مباركة عظيمة كشجرة الزيتون.
كذلك هو الحال على صعيد الأمم، لقد كان بين خراب بلدان ونهوضها حلم.. حلم يتيم يرضع من العدم، والأمثلة لا حصر لها، هذان البلدان الآن يصنعان التاريخ ويكتبان مصائر دول أخرى، وكذلك أنت يا سوريا لا بدَّ أن يبزغ فجرك بعد ليل طويل كالح في سواده وانغلاقه، وسيعود طائر الحمام محلقاً بسمائك، معلناً انتهاء زمن الرماد وبداية عصر الضوء قريباً.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أقول: إن واجب الوقت التضامن مع الشعبين السوري والتركي، وضرورة أن تشد الأيادي لمساعدتهما ومؤازرتهما في محنتهما، ولقد رأيتم بأعينكم وجوه فرق الإنقاذ كيف إذا عثروا على ناجٍ من تحت الركام، تهش وتبش كأنهم وجدوا كنزاً من كنوز هذه الدنيا، وأي كنز أثمن من النفس التي خلقها الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.