جرى العرف على أن تكون فائدة الودائع أعلى من معدل التضخم، بحيث تحقق للمدخر عائداً موجباً؛ حيث تمثل نسبة التضخم معدل تآكل القيمة الشرائية للنقود، مما يدفع أصحاب الأموال للبحث عن وعاء ادخاري يحقق لهم عائداً يتخطى معدل التضخم، الأمر الذي دفع البنك المركزي المصري لرفع سعر الفائدة عدة مرات خلال العام الماضي، بمجموع 8% لمواجهة ارتفاع معدلات التضخم، خاصة بعد انخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار عدة مرات.
وهو ما ترتب عليه في إصدار البنوك الحكومية في مارس الماضي شهادات إيداع بفائدة 17.25%، وتكرار إصدار تلك البنوك الحكومية: الأهلي المصري ومصر والقاهرة شهادات ادخار لمدة عام بفائدة 25% بالشهر الماضي، وواكبها إصدار بعض البنوك الخاصة شهادات إيداع بفائدة 22.5% لمدة عام نصف، منها البنك التجاري الدولي وبنك قطر الوطني.
إلا أن الوعاء الادخاري المتمثل في حسابات توفير البريد المصري ظلت فائدته ثابتة منذ سبتمبر 2021 وحتى الآن عند نسبة 7%، رغم بلوغ معدل التضخم حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء خلال الشهر الماضي 26.5%، وبلوغه 31.2% حسب البنك المركزي المصري الذي يستبعد ضمن سلة مؤشر أسعاره، الخضر والفاكهة والسلع التي يتم تسعيرها جبرياً كالمشتقات البترولية والسجائر وغيرها.
وهو ما يعني حصول مودعي حسابات توفير البريد المصري على عائد سلبي بنسبة 19.5% بالقياس إلى مؤشر تضخم جهاز الإحصاء، وعلى عائد سلبي بنسبة 24.2% بالقياس لمؤشر تضخم البنك المركزي، أي إن هؤلاء المودعين يحققون خسائر، رغم ما يحصلون عليه من عائد، وتزداد نسبة تلك الخسارة بالقياس الى معدل التضخم الحقيقي الذي يرى غالب المصريين أنه يصل إلى 100% إن لم يكن أكثر من ذلك.
وعاء ادخاري عمره 122 عاماً
ويعود تاريخ بداية ودائع توفير البريد المصري إلى عام 1900 من خلال أمر عالٍ من خديوي مصر، أي إنه أقدم من غالب البنوك العاملة بمصر حالياً، ولمودعيه خصائص مختلفة عن مودعي البنوك، الذين يتعاملون مع مكاتب البريد المصري المنتشرة في أنحاء البلاد، وبلغ عددها بمنتصف العام الماضي 4285 مكتباً، منتشرة بأنحاء البلاد.
وإذا كانت فروع البنوك المصرية السبعة والثلاثين قد بلغت بنفس التاريخ 4598 فرعاً، فإن فروع البنوك تتركز بالمدن وخاصة بالمناطق الأرقى بالمدن وليست لها فروع بالقرى، فيما عدا البنك الزراعي المصري الذي يضم 1017 فرعاً، غالبيتها بالقرى، في حين يبلغ عدد القرى المصرية 4733 قرية، بما يعنى وجود فراغ مصرفي بغالبية القرى، خاصة مع ازدياد أعداد سكانها وتنوع أنشطتهم الاقتصادية.
وهكذا يكون انتشار مكاتب البريد المصري بالريف أكبر من انتشار بنوك القرية التابعة للبنك الزراعي، إلى جانب ضعف توسع بنوك القرية الثابت عددها منذ منتصف عام 2018، بينما زادت مكاتب البريد المصري بنحو 225 مكتباً بالعام المالي الأخير واستمرارها في التوسع.
ولأن سكان القرى يشكلون نسبة 57% من السكان مقابل نسبة 43% بالمدن، فهذا يعني إقبال سكان الريف على الادخار من خلال مكاتب البريد، نظراً للقرب المكاني، وصعوبة الانتقال إلى المدن للبعض، خاصة كبار السن والسيدات للتعامل مع البنوك، والانتظار الطويل بها في ضوء الزحام الدائم، خاصة بالبنوك الحكومية التي تجد ثقة أكبر لدى الريفيين، إلى جانب الرهبة من دخول البنك والتعامل معه لدى شرائح عديدة، خاصة من الأميين.
ومن هنا فقد بلغت مدخرات العملاء بهيئة البريد المصري حتى منتصف العام الماضي 261 مليار جنيه، وهي قيمة تفوق كثيراً قيمة الودائع بالبنوك متوسطة الحجم، ولا يتفوق عليها سوى البنوك الحكومية والخاصة الكبيرة، في ضوء وجود حد أقصى لقيمة الودائع المسموح بها في الحساب للشخص أو الشركة بمكاتب البريد 5 ملايين جنيه، وهو الحد غير الموجود بالبنوك.
21.7 مليون حساب ادخاري بالبريد
وأشار التوزيع الجغرافي لتلك الأرصدة للمدخرات بالبريد إلى تصدر القاهرة بنسبة 15%، تليها محافظة الغربية ذات الطابع العمالى بنسبة 9.6 % ومحافظة الدقهلية 8.2%، ومحافظة المنوفية ذات الطابع الزراعي 7.1% ومحافظ الشرقية ذات الطابع الزراعي 6.8%، ويلى ذلك محافظات سوهاج والقليوبية والإسكندرية وبني سويف والمنيا، وهو ما يشير إلى استحواذ محافظات الوجه البحري على7 مراكز ضمن العشر الأوائل، مقابل ثلاثة مراكز متأخرة لمحافظات الوجه القبلي الأعلى بمعدلات الفقر.
وبلغ عدد حسابات توفير البريد حتى منتصف العام الماضي 21.7 مليون حساب، وهو ما يعني كبر عدد المتعاملين مع مكاتب البريد، حيث أشارت بيانات صندوق النقد الدولى إلى أن عدد عملاء البنوك المصرية بمنتصف العام الماضي، بلغ 26.6 مليون مواطن مقابل 32.4 مليون مواطن بالعام المالي السابق بنسبة تراجع 18% لعدد المتعاملين.
بل إن العدد بالعام المالي الأخير كان أقل من العام المالي السابق لظهور فيروس كورونا، وهو 2019/2018 حين بلغ 27.4 مليون مواطن، وربما يعود ذلك إلى الرسوم التي تتقاضاها البنوك على المعاملات وزحام صالات البنوك والغلاء الذي لا تتبقى معه فوائض.
والغريب أن بيانات البنك المركزى الخاصة بالشمول المالي أخفت ذلك الانخفاض في عدد العملاء، وقامت بجمع عدد المتعاملين مع البنوك ومكاتب البريد معاً، للخروج بنسبة جيدة للشمول المالي بمنتصف العام الماضي، حين أشارت لبلوغ عدد المتعاملين مع البنوك والبريد معاً 39.6 مليون مواطن من إجمالي 65.4 مليون مواطن فوق سن الـ16 من أعمارهم، لتصل نسبة الشمول المالي أي التعامل بحسابات 60.6%.
وجاء رقم المتعاملين الكبير مع مكاتب البريد لإيداع أموالهم، رغم قلة التنوع في أوعيته الادخارية التي تقتصر على توفير البريد والحسابات الجارية، وعودة منح جائزة بمليون جنيه لمودعي توفير البريد بشكل ربع سنوي منذ منتصف العام الماضي، بعد أن كانت تلك الجوائز موجودة منذ 14 عاماً ثم توقفت، ورغم أن شروط الدخول في السحب للجائزة العائدة تطلب حدّاً أدنى 10 آلاف جنيه.
وأن يكون هناك 3 تعاملات على الحساب قبل كل سحب، وأن يكون لدى العميل بطاقة دفع منفصلة مرتبطة بحسابه، وصعوبة ذلك لقلة عدد ماكينات السحب بالريف، وأن يكون دخول السحب بحساب واحد من حساباته.
شروط صعبة لدخول سحب الجائزة
وفي سبتمبر الماضي أعلنت هيئة البريد عن إمكانية صرف عائد حسابات التوفير بشكل ربع سنوي بعائد 6.25%، وذلك للمرة الأولى، وإمكانية صرف العائد بشكل شهري، ليصبح بنسبة 6% مع بقاء صرف العائد سنوياً بنسبة 7%.
وكان عائد حسابات توفير البريد قد بلغ 9.25% في يوليو 2020، حين كان معدل التضخم حسب جهاز الإحصاء 4.6% أى إن المودع كان يحقق وقتها عائداً موجباً، لكن تلك الفائدة ظلت تتراجع إلى 7.75% في ديسمبر من نفس العام، ثم تراجعت إلى 7.5% في أغسطس 2021 ثم إلى 7% منذ سبتمبر من نفس العام، وحتى الآن أى منذ حوالي 17 شهراً.
والغريب أن دعوة البنك المركزي لسحب السيولة من السوق من خلال رفع الفائدة، منذ مارس الماضي لمواجهة التضخم لم تشمل ودائع البريد، حيث إن هيئة البريد ملزمة قانونياً بإيداع حصيلتها من المدخرات ببنك الاستثمار القومي، الذي يحدد لها فائدة عادة ما تكون أقل من أسعار الفائدة بالسوق، في حين شهدنا قبل أسبوع البنك المركزي يمنح البنوك المودعة لديه عبر آلية الودائع المرتبطة بعائد الكريدور 16.9%، كما بلغت الفوائد الممنوحة لأذون الخزانة لمدة عام 22%.
وهكذا تتسبب العوائد المنخفضة لحسابات توفير البريد في استمرار ظاهرة المستريح، وهو الشخص الذي يعد من حوله بالاستثمار في أنشطة عالية الربح، ويتلقى منهم أموالهم ويمنحهم عليها فوائد عالية لأشهر قليلة، ثم يختفى بعدها، كما يدفع العائد الأقل من معدل التضخم الكثيرين للتوجه لمجالات غير نافعة مجتمعياً، كالتجارة بالعملات الأجنبية أو اقتناء الذهب، أو التعامل بالبورصة دون خبرة كافية، مما يعرّض أموالهم للخسارة .
ليظل السؤال الجوهري: كيف لبلد به نسبة ادخار ضعيفة، ونسبة تضخم عالية وبنوك توظف نسبة كبيرة من أموالها في علاج عجز الموازنة، ألا تسعى لحشد تلك الطاقات الادخارية لدى البسطاء، والتي تتجه لبنك الاستثمار القومي المسؤول عن تمويل مشروعات الخطة الحكومية، من خلال تقديم عائد مناسب لمودعي حسابات البريد؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.