بأساليب ماكرة وتنظيم عال، ظاهرة التسول في العراق أصبحت شيطنة للفقراء والمحتاجين في زحام المتسولين وأساليبهم الماكرة، فعندما تتجول في الأماكن المزدحمة كالأسواق العامة والمستشفيات، وأي مكان به جمهرة من الناس، يكون الحاضر الذي لا يغيب؛ مجموعة متفرقة من أطفال وفتية ونساء وشباب وكبار بالسن، يندرجون تحت مسمى الفاقة والاحتياج.
كبير بالسن يستغل مرضاً أو إعاقة وعاهة في جسده لغرض الاستجداء، وامراة تستغل ضعفها ومرضها ولائحة الفحوصات التي بيدها لإرغام الآخرين على الشفقة عليها، وإلا سيشعر المقابل بغضب الله في حال امتناعه عن الدفع، وأن الأيام دول، فلا بد من إيفاء فرض عين مترتب عليه من أجل دوام صحته، وذلك من خلال التصدق لهؤلاء.
الصورة الأكثر بؤساً من ذلك، والتي تتكرر يومياً ويقتفيها عشرات المتسولين في شتى الأماكن والطرقات، أن يفرش متسول سجادة من قماش على الأرض ويُجلس طفله أو طفلته عليها أو يجعله مستلقياً إن كان رضيعاً، في صورة تثير النفور والاستياء من مدى استغلال الطفولة والاتجار بأبنائهم بهذا الشكل الشنيع، أو على الأقل يتجولون معهم في الطرقات كوسيلة لإثارة الشفقة، وتسهيل مهمة الدفع لهم من دون مطاولة، وبجهد يسير.
في الآونة الأخيرة بدأت ألحظ انتقال وجهة أكثرهم نحو عيادات الأطباء، يقفون على رأس المريض الذي ينتظر دوره، يستجديه ويغدقه بالأدعية غير المجانية قطعاً، بل تنتظر الإيفاء، وحالما ينال مراده ينتقل لآخر يضطره خجله للدفع على منوال سابقيه.
الشباب غالباً هم الأقل حظاً من الآخرين، نظراً لأنهم ليست لديهم مؤهلات تستحق الشفقة، كحال المرأة أو المسن أو المعاق، لكني ذات يوم تم خداعي بأحدهم، وهو مراهق وفي يده صينية صغيرة بها "شرابت" مفتتة، وهي حلويات موصلية ليتسابق إلى ذهني من دون تفكير أن أحدهم قام بذاك الفعل انتقاماً وإذلالاً لهذا الفقير الذي لاحول له ولا قوة، و نظراته المتحسرة والحزينة التي تدمي القلب، كل هذا أوصل لي هذا الظن، ما اضطرني لتعويضه بما يقدر أن يجلب بديلها ويسترزق بها ولا يحزن، ليتبعني ثاني ثم ثالث بذات ظني، ثم ذات الفعل، عندها تنبهت أني قد وقعت بالفخ.
أوقعني هذا الشاب بفخه وأوقع من أتوا بعدي، فإن ما قبضه هذا الفتى في دقيقة لا يقبضه عشرة متسولين في ساعات، وما أكد لي ظني، أني رأيته بعد أيام يعيد ذات المشهد بدوره المتقن بمعونة الحلوى المفتتة، لكن في مكان آخر، والتصدق عليه جارٍ على قدم وساق.
عندما نتردد على هذه الأساليب المتبعة من قبل مجتمع المتسولين نجد أنها أشبه بظاهرة تنمو وتزدهر ولا تقابل بالردع والكف، رغم كثرة الوسائل الإعلامية الذي تتحدث عن تقييدها وردعها لكن على أرض الواقع لا يوجد شيء، وسنجد أن تلك الأساليب تسلك مسارات ثابتة أو لنقل سيناريوهات محددة بإخراج واحد على حسب نوع الفقير، إن كان طفلاً أو شاباً أو امرأة أو كبيراً بالسن.
مما لفت نظري في أحد المشاهد، وبعد انتهاء يوم طويل من الاستجداء تتجمع امرأتان على مقربة من جامع في سوق عام تتقاسمان مؤونتهما من الأموال، وتتناقشان بطريقة مبتذلة حول ما تم تحصيله من عملهما الشاق أثناء النهار حتى الليل.
في فترة قريبة تم تداول معلومات استخبارية تفيد بانتماء جماعة المتسولين لشبكات منظمة، قيل إنها تعود لجماعات سياسية وأحزاب ومتنفذين، أياً كانت فهي تؤدي دور المافيات في البلاد، تقوم هذه المافيات بتجميع المتسولين منذ بكيرة الصباح لتزج بهم في أماكن متفرقة على ذات الأماكن السابقة الذكر، وأن توجيههم يتم على ذات السيناريوهات أعلاه.
توجد معلومات أخرى عن المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان بأنه تم استقدام متسولين من دول عربية وأجنبية للعراق؛ لأن إيرادات التسول كبيرة، لكن هذا لا يلقي الكرة في ملعب أجندات خارجية تؤدي دور المتنفذ على بلد، وكأنه خالٍ من العلل والأزمات، فالبلاد الهشة تستقبل كل أنواع الفيروسات من الخارج، أضف لذلك جسدها المريض يلقي ما بجعبته من آفات على بقية أعضائه فيمرضها وينخر فيها كالسرطان.
ذلك لأني أستطيع أن أميز عشرات المتسولين من لهجاتهم، أنهم من أبناء البلد، وأن غالبيتهم من القرى والأطراف التي تنتشر في مراكز المدن التي يكثر بها هذا النوع من التسول المتنامي كماً ونوعاً.
بالتالي، فإنه حتى لو تم ضبط تلك الشبكات وفك ارتباطاتها، لكن هذا لايمنع أن يعمل مجتمع المتسولين بشكل مستقل، ينتخبون أحد السيناريوهات الملائمة لحالتهم، يتقمصون الدور التمثيلي وينطلقون في سيرك الحياة.
إن انتشار ظاهرة الاستجداء بنحو منظم ومتزايد يغير النظرة عن المعوزين والفقراء بأن يتم شيطنتهم من خلال امتهان هذا العوز والفاقة للحصول على المال، إلى درجة تكريسها من قبل مجتمع المافيات كسبيل للفساد، مستغلين عواطف الناس في استحصال يسير بواسطة شرذمة من المأجورين، سواء من داخل البلد نفسه أو خارجه كمرتزقة بحسب ما تشير بعض التقارير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.